جمال فهمي
غنيٌّ عن أي تنويه، أنه ليس كل اليهود «صهاينة عنصريين».. يؤمنون بالعنف والإجرام المجنون، المنفلت من كل قيد قانوني أو أخلاقي. وليس كل يهودي يؤيد سرقة فلسطين العربية.. من أهلها (وغيرها من أراضي العرب)، وتشريدهم وترويعهم بمذابح جماعية مروِّعة. ليس كل يهودي يؤيد – بعمى، وموت ضميري كامل – هذا الكيان العدواني العنصري.. الذي سرق فلسطين من أهلها، ويُعربد بالتخريب والاغتصاب.. فوق أراضي أقطارنا العربية يميناً وشمالاً.
الحقيقة، أن يهوداً كثراً في العالم نبلاء، ويتمتعون بحس إنساني مرهف وضمير يقظ، ومن ثم يجاهرون بمواقف ضميرية وإنسانية نبيلة.. مُعادية للهمجية الصهيونية، والممارسات المتفوِّقة في الإجرام.
إذن.. ليس كل يهودي يستحق الإدانة والاشمئزاز، والعكس صحيح أيضاً. ففي عالمنا كثرٌ ممن ليسوا يهوداً، لكنهم صهاينة أقحاح.. لا يخجلون من صهيونيتهم، وإنما نراهم.. وهم يؤيدون بفجاجة، ووقاحة لا نظير لها.. جرائم العدو التي يندى لها جبين البشر – أي بشر – ويتماهون تماماً مع أقبح وأحط أنواع الصهاينة.
إن قائمة اليهود الشرفاء والعظماء.. الذين ينأون بأنفسهم عن الصهيونية؛ مشروعاً وكياناً.. قائمة طويلة، تنوَّعت مواقفهم بين رفض إقامة هذا الكيان من الأصل، مثل المفكر الأمريكي الكبير ناعوم تشومسكي، أو رفض وإدانة ممارسات الكيان الصهيوني ونعته.. بما يستحق من أوصاف سلبية، لا تبدأ بـ«الاستعمارية» و«العدوانية»، ولا تنتهي بـ«العنصرية» و«الوحشية».. وخلافه.
يبرز من هؤلاء العالم الكبير ألبرت أينشتاين، الذي رفض – بصرامة – أن يتولى منصب أول رئيس لدولة الكيان.
هذه النخبة المحترمة ،انضمَّت إليها جحافل أخرى من قامات يهودية.. بارزة في كل مجال، منهم الكاتب الأمريكي الكبير نورمان غاري فينكلشتاين، والسيناتور بيرني ساندرز، ومؤرخون مرموقون.. أسسوا تياراً في الدراسات التاريخية؛ سُمِّي «المؤرخون الجدد».. أمثال آفي شلايم وإيلان بابيه وتوم سيغيف. هؤلاء، تولوا – بأبحاثهم الجادة – كشف زيف وتزوير الرواية التاريخية الصهيونية… جميعهم كانوا قد أيَّدوا إقامة دولة إسرائيل، لكن سياساتها العدوانية وعنصريتها المروعة.. أفزعتهم؛ فصاروا كلهم مؤيدين وداعمين علناً للحق العربي الفلسطيني، بل إن بعضهم تراجع علناً عن دعم إنشاء هذه الدولة العنصرية.
تلك القائمة الناصعة – من أسماء اليهود النبلاء أصحاب الضمائر – يزينها ويحتل موقعاً بارزاً فيها، الكاتبة اليهودية العملاقة هانا أرندت، التي تنحدر من أسرة يهودية ألمانية، واكتسبت الجنسية الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية.
«أرندت» تمتَّعت باستقامة فكرية وضميرية، تجلت في مواقفها المتواترة من الكيان الصهيوني، وتجسَّدت في كتابها الرائع «إيخمان في القدس… تقرير عن تفاهة الشر». هذا الكتاب فتح عليها أبواب جهنم، إذ اعتبرته الأوساط والأبواق الصهيونية.. «جريمة هرطقة لا تُطاق»، ونعتوا الكاتبة بأنها «يهودية تحتقر نفسها»؛ وهو النعت نفسه الذي تعوَّدوا إطلاقه على كل اليهود الشرفاء.. الذين يجهرون برفض وازدراء عنصرية وتوحش إسرائيل.
فما هي حكاية هذا الكتاب؟ ومن هو إيخمان الذي في عنوانه؟
هو أدولف إيخمان، ضابط ألماني.. خدم في الجيش النازي أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان مسؤولاً عن معسكرات الاعتقال الفظيعة، التي احتجز فيها هتلر عشرات الآلاف (منهم يهود وغجر وغيرهم)… هذا الرجل اعتقلته القوات الأمريكية بعد هزيمة ألمانيا النازية، لكنه تمكَّن من الهرب إلى الأرجنتين، وظل طليقاً حتى العام 1960، عندما تمكَّن فريق من المخابرات الإسرائيلية من اختطافه، ونقله إلى فلسطين المحتلة، حيث جرت محاكمته وسط ضجيج إعلامي هائل؛ بوصفه مسؤولاً عن تنفيذ محارق ضد اليهود في المعتقلات النازية، وانتهت المحاكمة إلى إدانته، وعقابه بالإعدام.. الذي نُفذ فعلاً في سجن الرملة عام 1962.
أما الكتاب، فقد حكى قصة هذه المحاكمة.. التي غطت «أرندت» وقائعها – في تقرير صحفي كبير، أعدته لصالح مجلة «ذا نيويوركر» الأمريكية.. التقدمية آنذاك – وشرحت فيه كيف قامت إسرائيل (والحركة الصهيونية من خلفِها).. بتضخيم القضية، والتلاعب بها إعلامياً على نطاق واسع جداً.. للتغطية على جرائم، ربما لا تقل هولاً وبشاعةً عن جرائم النازية. وقالت: «إن الدفاع الذي قدَّمه إيخمان عن نفسه.. بدا منطقياً جداً، إذ تأسس على أنه كان موظفاً تابعاً للحكومة الألمانية؛ القائمة وقت الحكم النازي، وأنه كان ينفذ أوامر يُؤمر بها ليس أكثر».
لقد استهلت «أرندت» تقريرها.. بسؤال: «هل يمكن للمرء أن يرتكب الشر، من دون أن يكون شريراً؟!»… وجاوبت بأن إيخمان «كان بيروقراطياً عادياً، بل أقل من عادي، فهو لم يكن منحرفاً، ولا سادياً، ولكنه كان عادياً.. بشكل مرعب؛ إذ فعل ما فعله.. من دون أي دافع، سوى محاولته الاجتهاد في مساره المهني في البيروقراطية النازية». وأضافت: «إن إيخمان لم يكن – كما صوَّرته الدعاية الصهيونية – وحشاً لا أخلاقياً، بل هو قام باقتراف أعماله الشريرة.. من دون أي نوايا شريرة.. وهذه هي تفاهة الشر».
أحكي هذه الحكاية كلها، بينما الحسرة والألم يعتصراننا.. ونحن – كمواطنين عرب – نعيش أجواء تلوُّث عقلي وروحي وضميري وإنساني ووطني.. لا يصدقه عقل، جعل أمثال هذه القامات العظيمة من اليهود.. أشرف وأنبل كثيراً من حفنة كريهة.. تنتسب لأمتنا، لكنها لا تتورع عن ممالأة العدو، والاستعداد دائماً لغفران – بل أحياناً تسويغ – كل جرائمه الوحشية… إنهم أشرارٌ حقاً، لكنهم تافهون جداً.
نقلاً عن «عروبة 22»