الدكتور مخلص المبارك..
أصبحت أزمة سد النهضة بالنسبة لمصر قضية مصيرية؛ تتعلق بأمنها القومي، وتهدد وجودها الديموغرافي الممتد لألاف السنين، والمرتبط – بشكل جوهري – بنهر النيل.. بصفته شريان الحياة الوحيد للحضارات المتعاقبة على ضفافه.
إن المتتبع لمسار المفاوضات بين أثيوبيا من طرف، ومصر والسودان من طرف آخر، يجد أن أثيوبيا قد اتبعت منذ البداية.. استراتيجية التسويف والمماطلة، حتى غدت لعبة تجيدها، وتُكسبها الوقت لإنجاز إنشاءات السد، واتمام ملء خزانه.. في ظل التزام مصر بنهج التسوية السلمية لحل النزاع منذ البداية. وفي حين أن أثيوبيا شرعت في بناء سد النهضة – من خلال إعلان آحادي الجانب دون التنسيق مع مصر والسودان – قامت باستغلال الفترة الحرجة سياسياً.. ما بعد قيام ثورة يناير، وفرض سياسة الأمر الواقع.. في انتهاكٍ واضحٍ لمبادئ القانون الدولي للأنهار، وإخلالٍ بالضوابط القانونية لإقامة المشروعات المائية في حوض النيل.
يوفر القانون الدولي مجموعة من القواعد والمبادئ القانونية، التي تحمي حقوق مصر والسودان السيادية في مياه نهر النيل؛ فقد أكد القانون الدولي للأنهار.. على مجموعة من القواعد القانونية؛ وأهمها الانتفاع العادل والمنصف للمصادر المائية، وثبوت المسؤولية الدولية عن الإضرار بالغير، مع التأكيد على أسلوب التعاون، والتفاوض بحسن النية، واحترام الحقوق التاريخية المكتسبة للدول في الأنهار الدولية. كما يؤكد القانون الدولي العام على مبدأ عدم التعسف في استخدام الحق. وهذا بمجمله، لم تلتزم به أثيوبيا.. بحجة ممارستها لحقها السيادي بالاستغلال (العادل) لمياه النيل، وفي إطار تلبية احتياجاتها التنموية. وشكل ذلك انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، وقواعد العلاقات الدولية.. المستقرة منذ مئات السنين.
وأمام تعنت أثيوبيا، وتضيعها للوقت.. في مفاوضاتها المستمرة مع مصر والسودان، لابد من الأهمية الإشارة إلى ضرورة تكامل الموقفين المصري والسوداني، خاصةً أن موقف السودان اتسم أحياناً بالتردد، وعدم الثبات السياسي، فأضعف موقف المفاوض المصري.. الذي يتوجب عليه أن يكسب السودان؛ ليكون شريكاً استراتيجياً معه في مواجهة المخاطر المحدقة بكلا البلدين.
تاريخياً، يؤكد القانون الدولي – فقهاً وقضاءً وعرفاً واتفاقياً – على ضرورة انصياع جميع الدول إلى اللجوء لتسوية النزاعات بينها.. من خلال المفاوضات أو التحكيم أو القضاء الدولي.. اعتماداً على مبادئ القانون الدولي للأنهار، التي قننتها اتفاقية الأمم المتحدة لاستخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997. وفي قضية سد النهضة لم تنضم مصر و أثيوبيا للاتفاقية المذكورة مما يجعل النزاع بينهما خارج النطاق الاجرائي لأحكام الاتفاقية، ويجعل مرجعيتهما الإجرائية في حل النزاع تنحصر في أحكام اتفاقية اعلان المبادئ لعام 2015 – الموقعة في الخرطوم بين مصر والسودان واثيوبيا – التي قيدت إمكانية لجوء مصر والسودان إلى الوسائل القانونية المتعارف عليها.. بموجب القانون الدولي؛ وهي التحكيم الدولي أو القضاء الدولي ، حيث حصرت المادة العاشرة من الاتفاقية طرق التسوية بالوسائل السياسية – من خلال التوافق أو التفاوض – وفقاً لمبدأ حسن النوايا.
وفي حال عدم تمكن الأطراف من حل الخلاف – من خلال ذلك – يمكن لهم مجتمعين.. طلب التوفيق أو الوساطة. ويمثل نص المادة العاشرة المذكورة.. قاعدة مستغربة واستثنائية في القانون الدولي الاتفاقي ودليلاً على تفريط كل من مصر والسودان بحقهم المكتسب، باللجوء إلى الطرق القانوني..ة وهي التحكيم والقضاء الدوليين ،والاكتفاء بالطرق السياسية.. وهي المفاوضات. وفي هذا السياق فإن لجوء مصر لمجلس الأمن الدولي – بموجب الفصل السادس من الميثاق – لتنبيه مجلس الأمن أو الجمعية العامة.. بأن النزاع قد يُعرض السلم والأمن الدوليين للخطر، لا يفضي إلى نتائج مرضية وحاسمة؛ وخاصةً أنه من المتوقع أن تصدر توصية من المجلس – بموجب الفصل السادس – بالالتزام بنص المادة العاشرة من اتفاقية اعلان المبادئ.. أي المفاوضات المباشرة.
وفي أحسن الأحوال، قد يوصي المجلس بعرض النزاع على محكمة العدل الدولية.. لأخذ الرأي الاستشاري غير الملزم؛ مما يعني كسب أثيوبيا مزيداً من الوقت لإنجاز خططها، وإنفاذ إرادتها الأحادية وبالتالي فرض سياسة الأمر الواقع.
و يمثل الخيار الأفضل لمصر، أن تسعى جاهدةً لكي ينظر مجلس الأمن موضوع النزاع.. بموجب أحكام المادتين 41 و 42 من الفصل السابع من الميثاق، ليتبنى قراراً حاسماً لمعالجة النزاع وهو ما يعتبر أمراً صعب التحقق.. بسبب عدم توافر الظروف السياسية الإقليمية والدولية المواتية حالياً، بالإضافة إلى تلك التحديات القانونية، والأعراف الدولية المستقرة.. في حل مثل هذه النزاعات. وخاصةً أن مخاطر السد وأي آثار مدمرة له.. لم تظهر بصورة قوية في المرحلة السابقة، وهو ما يتطلب جهوداً كبيرةً.. في محاولة لإقناع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
- أستاذ جامعي ومستشار قانوني.