عبدالله السناوي
لا تنشأ أزمات الثقافة والمثقفين في فراغ تاريخ، أو خارج أي سياق.
المراجعة ضرورية من عند الجذور، حتى يمكن تبين حقيقتها وطبيعتها.. من عصر لآخر، أو كيف وصلنا إلى الحديث بسخط.. عن اضمحلال الدور الثقافي المصري؟
عند تأسيس الدولة الحديثة عام (1805) استند «محمد علي» على ركيزتين أساسيتين:
أولاهما: بناء جيش قوي، يستطيع أن يُلبي طموحه في تثبيت حكمه، والتطلع إلى خارج الحدود.. منازعا الخلافة العثمانية، وربما وراثتها.
وثانيتهما: إرسال بعثات تعليمية، تتلقى العلوم الحديثة من الجامعات الأوروبية، حتى يمكن التطلع إلى تحسين جوهري فى أداء المهام العامة.
وكان الدور الذى لعبه الشيخ الأزهري «رفاعة رافع الطهطاوي» – في إلهام فكرة الحداثة والتجديد، والالتحاق بالعصر والاطلاع على علومه ونظمه.. بكتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» – تأسيسا لـ«الإنتليجنسيا» المصرية؛ التي ولدت من رحم البعثات التعليمية، وأدوار الدولة وتولت المناصب فى دولابها.
بأثر الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، ارتفعت نداءات حق تقرير المصير، نهض المصريون – بقيادة «سعد زغلول» – لطلب الاستقلال والدستور في (1919).
لم يكن هناك مشروعا ثقافيا للثورة، لكن الجو العام فى البلد ولّد طاقة ثقافية غير مسبوقة.. في جميع مجالات الإبداع والتفكير.
ظهرت قامات ثقافية رفيعة من وزن الدكتور «طه حسين» و«عباس محمود العقاد»، وبرزت ذائقة فنية جديدة بإبداعات «سيد درويش» و«محمد عبدالوهاب» و«أم كلثوم» في الغناء، و«محمود مختار» في النحت.
بدت مصر كأنها تولد من جديد، وأخذت زمام الريادة الثقافية في العالم العربي.
بعد ثورة يوليو (1952).. نشأت تجربة مختلفة؛ اعتمادا على مشروع ثقافي واضح ومحدد، وبرعاية الدولة.. على عكس ما جرى بعد ثورة (1919).
اتسعت مساحة القراءة العامة.. بما هو جدير بالاطلاع عليه، من فكر وأدب وإبداع لكتاب مصريين.
ازدهرت حركة الترجمة.. لإتاحة ما ينشر من فكر حديث فى الغرب.. أمام القارئ بأرخص الأسعار.
جرت ثورة في المسرح المصري، ونشأ جيل من المسرحيين العظام كـ«يوسف إدريس» و«سعد الدين وهبة» و«ألفريد فرج» و«محمود دياب» و«ميخائيل رومان» و«نعمان عاشور».
أنشئت أكاديمية الفنون بالهرم وأرسلت بعثات إلى عواصم أوروبية، خاصة موسكو، لتعلم الموسيقى الكلاسيكية وفن الباليه والمسرح.
انتشرت قصور الثقافة في كل المدن، كأنها تلاحق التوسع في إنشاء المدارس والمستشفيات العامة، لكنها تتعرض للتقويض والإغلاق الآن بذرائع غير مقنعة.
نهضت حركة الفن التشكيلية، وشهدت الأغنية الوطنية عصرها الذهبي.
بروح المرحلة، جرت ثورة حقيقية.. ردت الاعتبار إلى الغناء الشعبي على يد «زكريا الحجاوي».
وكان صعود فن الرقص الشعبي في تجربتي «فرقة رضا» و«الفرقة القومية للفنون الشعبية».. علامة على نوع التجديد الثقافي، الذى زاوج بين الفنون الحديثة والفنون الشعبية.
كانت تلك ثورة ثقافية متكاملة الأركان.. أتاحت حرية النقد والاختلاف.
كانت تلك مفارقة، حيث سمح في الإبداع القصصي والمسرحي، بما لم يكن مسموحا به على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون من نقد.
الثقافة والإعلام قضيتان متلازمتان، كلتاهما تحتاج الأخرى.. لاستكمال أدوارها.
فيما اتسعت حريات النقد والتعبير في الأولى، ضاقت بالثانية.
على أوراق صحف، جرت عام (1961) مساجلات من مواقع فكرية مختلفة.. حول ما أطلق عليها «أزمة المثقفين».
شارك رئيس تحرير الأهرام «محمد حسنين هيكل» في تلك المساجلات، وضمّن رأيه في كتابه «أزمة المثقفين»، الذي نشره (1962).
ألمع ما في ذلك الكتاب.. تفرقته بين «أهل الثقة» و«أهل الخبرة».
كانت تلك المرة الأولى، التي تستخدم فيها هذه التفرقة، التي شاعت واستخدمت على عكس ما قصده.
كان تقديره، أنه ليست هناك مفاضلة بين العسكريين والمدنيين، أو خطوط فاصلة؛ فأهل الثقة.. يمكن أن يكونوا أهل خبرة، كما أن الكثيرين من أهل الخبرة.. يمكن أن يكونوا محل ثقة.
من بين الذين توافرت فيهم الصفتين: «محمود يونس» – الذي تولى مسؤولية قناة السويس – و«محمود رياض» الذي تولى مسؤولية السياسة الخارجية، و«مجدى حسنين» صاحب مشروع تعمير الصحراء ومؤسس «الوادي الجديد».
وقد تولى عسكريون سابقون مناصب دبلوماسية رفيعة، أثبتوا فيها درجة عالية من الكفاءة كـ«ثروت عكاشة» و«فتحى الديب» و«أمين هويدي» و«حافظ إسماعيل» و«وفاء حجازى».
كما أن هناك شخصيات مدنية.. حازت صفتي الثقة والخبرة، ولعبت أدوارا جوهرية.. كـ«سيد مرعي»، الذي تحمل مسؤولية الإصلاح الزراعي، و«عزيز صدقى» الذي تحمل مسؤولية التصنيع، و«عبدالمنعم القيسونى»، الذي تحمل مسؤولية الاقتصاد.
مشكلة السلطة، أية سلطة.. في أصحاب المصالح، الذين يتصيدون الفرص.. بزعم أنهم أهل ثقة.
كانت إحدى معضلات «يوليو» – التي عانت منها – أن الذين تصيدوا الفرص كانوا أول من انقلبوا عليها.
في سبعينيات القرن الماضى، جرى انقلاب كامل على إرث يوليو الثقافي.
نشأت أزمة مثقفين من نوع آخر، أطلق عليهم الرئيس الأسبق «أنور السادات»: «الأفندية».
اضطرت أعداد كبيرة منهم إلى الهجرة الجماعية خارج مصر، التي عرفت – لأول مرة فى تاريخها -الحديث ظاهرة «الطيور المهاجرة».
في سنوات «حسنى مبارك»، تحسنت الأجواء نسبيا، حدثت إنجازات حقيقية لا يمكن إنكارها.. في البنية الثقافية التحتية، لكنها تصادمت مع طبيعة المرحلة، التي وصفها وزير الثقافة «فاروق حسني» بـ«سنوات التحاريق».
بعد ثورة يناير (2011)، ولدت أجيال جديدة من المثقفين والمبدعين.. دون أن تتوافر أية جسور ممتدة.. تدعمهم، وتفتح الآفاق المسدودة أمامهم.
كان الإقصاء عنوانا رئيسيا لأزمة المثقفين.. في آخر صورها.
أثناء احتجاجات (30) يونيو، تقدم المثقفون للدفاع عن حلم الدولة المدنية الديمقراطية.. المجهض، اعتصموا في وزارة الثقافة، وأقاموا أمامها عروض أوبرا وبالية، لكنهم وجدوا أنفسهم بعدها فى حالة انكفاء إجباري.
كانت تلك صورة أخرى لأزمات المثقفين، التي أخذت تتمدد فى التعليم والنظرة إليه، نالت من هوية القاهرة وإرثها الحضارى.. دون اعتداد بآراء أهل الاختصاص.
أخطر ما يحدث الآن.. غياب أى مشروع ثقافي، يطلق طاقة البلد.. في الإبداع والخلق، ويصون حرية التعبير والتفكير.
أي كلام آخر.. لف ودوران حول الأزمة الضاغطة.
نقلا عن «الشروق»