Times of Egypt

يوميات أسبوع نكسة 1967 في حياة طبيب شاب 

Mohamed Bosila
محمد أبو الغار 

محمد أبوالغار  

عُينتُ مُعيداً بقصر العيني يوم 5 فبراير 1967، فوجدت الجامعة تموج بنشاط سياسي مكثف.. من الاتحاد الاشتراكي، وكان هو الحزب السياسي الوحيد المسموح به، وجناحه الشبابي منظمة الشباب. لم أكن عضواً في منظمة الشباب.. لأن العضوية كانت بالاختيار من القيادات، ولم يرشحني أحد، بالرغم من أنني كنت طالباً نشيطاً، وعضواً في اتحاد طلبة كلية الطب. 

كانت الصحافة مؤمَّمة منذ سنوات، وكان التليفزيون ثلاث قنوات مصرية، فلم تكن الفضائيات قد ظهرت، ولم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعي، ولا كمبيوتر ولا إنترنت، ولكن هناك جهاز الإشاعات والنكت المستمر، التي تحدَّث عنها عبدالناصر في خطاباته وقال إنه يعرف جميع النكت المنتشرة، وهو مهتم بسماعها. 

في هذه الأجواء، قيل إنه بلغ عبدالناصر أن هناك حشوداً على الجبهة السورية. ويوم 19 مايو، طلبت مصر انسحاب القوات الدولية.. الموجودة على الحدود بين سيناء وإسرائيل. وفي يوم 22 مايو، أعلنت مصر إغلاق مضائق تيران.. في وجه الملاحة الإسرائيلية، وأعلن جونسون – رئيس أمريكا – أن هذا عمل غير قانوني، وحضر سكرتير عام الأمم المتحدة يوم 23 مايو إلى القاهرة.. للتفاهم مع عبدالناصر حول خطورة الأمر، ولكن ناصر صمَّم على موقفه. تحرك العالم كله ضد مصر – بقيادة أمريكا وبريطانيا – حتى بدأ الهجوم الإسرائيلي صباح يوم 5 يونيو. 

سوف أسرد في المقال واقعتين، حضر كلاً منهما أكثر من ألف شخص. 

خلال الفترة السابقة للحرب، كانت مصر كلها تغلي، وكانت نبرة الإعلام في أعلى مستوى لها، وكان واضحاً.. أنها تعبر عن مركز قوة واضح لمصر، وأن إسرائيل في خطر حقيقي. وأقيمت لقاءات جماهيرية.. في كل أنحاء مصر لتأييد ناصر، وتشجيع القوات المسلحة. حضرت اجتماعاً عُقد في قصر العيني، حضره أعضاء هيئة التدريس والمعيدون في قاعة الاحتفالات، وكنت أصغر الموجودين، وفي البلكون جلس طلبة منظمة الشباب.. يهتفون ويدقون بأقدامهم. وحضر على المنصة المتحدث الرسمي باسم الرئيس عبدالناصر.. حسن صبري الخولي، وعميد الكلية وأعضاء هيئة التدريس – من زعماء منظمة الشباب – الدكتور حسين كامل بهاء الدين، والدكتور محمود شريف.  

تحدث الجميع بكلمات حماسية. وفي النهاية، تحدث المتحدث باسم الرئيس.. عن أن إسرائيل صغيرة ونحن أقوياء. ثم قال كلمة لا يمكن أن أنساها وهي: «إحنا لو الصعايدة خرجوا عليهم بالنبابيت، سوف تنتهي المعركة». وفُتحت المناقشة، وكان المتحدث الوحيد الدكتور حليم دوس – أستاذ الأمراض الباطنة – وكان رجلاً عالماً محترماً، وهادئاً وذا صوت خفيض، وقال إن عنده قلقاً.. بالرغم من ثقته في الجيش المصري، إلا أنه يسمع أن إسرائيل تسليحها قوي، وأن أمريكا تساندها. فردَّ صبري الخولي بصوت جهوريٍّ.. وباستخفاف: نحن لا نخاف وموقفنا قوي. وتعالت هتافات منظمة الشباب من البلكون.. تهتف للرئيس، وانتهى الاجتماع. 

وفي يوم 5 يونيو صباحاً، كنت أمر – مع الطلاب – على الحالات الإكلينيكية في الثامنة صباحاً، في انتظار حضور الأستاذ.. لإعطاء المحاضرة. وسمعت أصواتاً مكتومة، عرفت فيما بعد.. أنها كانت ضرب مطار حلوان الحربي. وأثناء المحاضرة دخلت الحكيمة عنبر المرضى.. وهي تزغرد، لأن الراديو أذاع أننا أسقطنا عدداً كبيراً من الطائرات الإسرائيلية. وحدث هرج ومرج، وأُعلن تحويل قسمنا إلى طوارئ جراحة. وطوال اليوم كنا نسمع الإذاعة تعلن تقدم قواتنا، وسقوط الطائرات الإسرائيلية. 

في المساء، استطعت – بواسطة راديو ترانزيستور – أن أسمع راديو لندن، بالرغم من التشويش الشديد، يعلن تحطيم سلاح الطيران المصري بالكامل، وتقدُّم الجيش الإسرائيلي في سيناء.  

وكانت أكبر صدمة تلقيتها في حياتي، وبالطبع لم أنم طوال الليل، وأخذت أفكر في مصر ومستقبلها وتاريخها، والمأساة التي حدثت، واعتبرت أن مستقبل مصر انتهى، وكان قراري أن الهجرة هي الحل الوحيد، وهو الحل الذي نفذته بعد شهور.. مع أكثر من نصف دفعتي، ولكني لم أستطع أن أستمر بعيداً عن مصر، بالرغم من الإغراءات والحياة المريحة، فعدت لأحضر حرب 1973 والعبور العظيم. 

مرت أيام الحرب الكئيبة، بعد أن عرف الجميع بالهزيمة، وسمعنا خطاب عبدالناصر بالتنحي في التليفزيون، وبعد انتهاء الخطاب.. تلقيت تليفوناً من قصر العيني، بأن أتواجد في قسم أمراض النساء.. باكراً الساعة 9 صباحاً. 

ذهبت، فوجدت الجميع هناك. ووصلت إشارة تليفونية، بأن يتجه الجميع إلى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، وطلب مني أستاذي د. صادق فودة.. أن أذهب معه في سيارته إلى الجامعة، ووجدنا حشوداً من جميع أعضاء هيئة التدريس.. من جميع الكليات، وجلست بجوار أستاذي، بينما البلكون العلوي يحتله طلبة منظمة الشباب يهتفون للرئيس. 

وحضر كبار رجال الاتحاد الاشتراكي – ومنهم أساتذة من كلية الحقوق – وخطبوا خطباً عصماء.. في محاولة لتفسير أسباب الهزيمة، ومنها أننا كنا نظن أن العدو سوف يأتي من الشرق، فأتى من الغرب. وأن إسرائيل تلقت مساعدات ضخمة، وأننا هُزمنا في معركة.. ولم نخسر الحرب.  

وأثناء التصفيق، وضجيج الطلبة، وذهول أعضاء هيئة التدريس.. بسبب حجم الهزيمة الضخمة، المصحوبة بكلمات هزلية من المنصة، انتهى الأمر.. بأن أعلن المسؤول الكبير في الاتحاد الاشتراكي من المنصة، أنه يوجد عدد ضخم من الأتوبيسات خارج القاعة، وسوف يركبها الجميع.. لتنقلنا إلى القصر الجمهوري، وهو ما حدث بالفعل. ونزلنا أمام باب القصر الجمهوري، وكانت هناك دفاتر تشريفات كثيرة.. موضوعة على المناضد في حديقة القصر، ووقفنا صفّا واحداً، كلٌّ يكتب اسمه ويوقع لمطالبة الرئيس بعدم التنحي، وكان ذلك بالتوازي.. مع المظاهرات عند مجلس الشعب، وهتافات واحتفال أعضاء مجلس الشعب.. المسجل صوتاً وصورةً، وعدنا إلى جامعة القاهرة منكسي الرؤوس. 

خلال هذه الساعات الحاسمة، بينما الأتوبيسات تنقلنا ذهاباً وعودةً، كان الجنود المصريون يعودون مشياً على الأقدام.. بدلاً من أن تنقلهم الأتوبيسات التي خُصصت للتأييد. وهكذا انتهى الأسبوع الأعظم كارثية في حياتي، وحياة معظم المصريين. 

قوم يا مصري.. مصر دايماً بتناديك 

نقلاً عن «المصري اليوم« 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *