عبدالله عبدالسلام
«سألني هامساً: ليبي؟»
أومأتُ برأسي.. خشية أن يكون كلامي غير واضح.
«مع أم ضد؟» سأل ببطء. ومقصده نظام القذافي حينها.
«ضد»، قلتُ.
«ممتاز»، قال: «تفضل واجلس بجانبي».
هكذا روى الكاتب الليبي البريطاني البارز هشام مطر.. شذراتٍ من لقائه مع الأديب الراحل نجيب محفوظ.. بعد وقت قصير من محاولة اغتياله الآثمة عام 1994.
مطر استعاد اللقاء.. في مقدمة كتبها للترجمة الإنجليزية الجديدة، التي قام بها، لمجموعة من أحلام صاحب نوبل وعنوانها: «وجدتُ نفسي.. الأحلام الأخيرة لنجيب محفوظ».
الأحلام جرى ترجمتها للإنجليزية من قبل، فلماذا مرةً أخرى؟ والآن؟
يجيب الناقد والكاتب البريطاني بايود تونكن.. في عرضٍ قدَّمه للترجمة الجديدة بصحيفة «فاينانشيال تايمز»: «إنها لآلئ غامضة بشكلٍ جيد».
هكذا أعمال محفوظ، كل جيلٍ يجد فيها إبداعاً وعمقاً وتفسيراتٍ.. لم يجدها الجيل السابق. الأحلام المحفوظية.. غالباً محيِّرة، حزينة، غريبة، وكوميدية أيضاً، بحسب تونكن. في أحد الأحلام، تُخبر سيدة – ارتبطت بعلاقةٍ مع الحالم – أنها «سعيدة مع زوجي وأطفالي»، يشعر بأن آخر شمعة قد انطفأت. وإذا كانت غفوة الحب الأول.. تتكرر في الأحلام، فإن الندم على الفرص الضائعة.. يتكرر أيضاً.
يبحث الحالم عن دليلٍ.. أن حبه لم يكن خدعةً، بل كان حقيقياً. الأحلام أيضاً.. تأملاتٌ في الآمال المنكسرة في الحرية السياسية. تعود الذكريات «الغرامية والديمقراطية» للظهور كثيراً في الأحلام.
ليس من السهل فهمُ أحلامٍ.. مرتبطةٍ ببيئةٍ وعالمٍ وزمنٍ آخر، خاصةً لمن يقرأونها مترجمة. لكن المترجم والروائي هشام مطر، يجمع بعبقريةٍ بين اللغتين العربية والإنجليزية.. نصاً وروحاً، لذا جاءت الترجمة معبرة وبليغة. سأل مطر محفوظ.. عن الكتابة بلغةٍ غير اللغة الأم، فأجاب: «أنت تنتمي للغة التي تكتب بها». ولأن إنجليزية مطر – كما يراها الناقد البريطاني – باردة، مقتضبة ومتقلبة، فقد خدمت لآلئ نجيب محفوظ.
خدمتها أيضاً ديانا مطر – المصورة الحائزة على جوائز عالمية – زوجته التي شاركت في الكتاب بصورٍ مؤثرةٍ لشوارع المدينة. وفي ذلك يقول مطر: «في ذلك الوقت (منتصف التسعينيات).. أصبحت القاهرة مصدر إلهامٍ عميقٍ لديانا، التي جابت شوارعها بعدستها لسنوات، تلتقط صوراً نابضةً بنفَسٍ تأملي، يشبه الحُلم». المترجم يرى أن أحلام محفوظ.. انعكاسٌ لقلقٍ وجودي وحنينٍ وطني، بل ونبوءاتٌ مبكرةٌ عن ثوراتٍ لم تتحقق. إنها تكشف عن قدرات محفوظ.. كمفكرٍ وحالم، وقدرة أحلامه – تلك السرديات المكثفة – على كشف النفس والواقع.. في آنٍ واحد.
من حينٍ لآخر، تتردد مقولاتٌ عن تجاوز نجيب محفوظ، وأن أعماله لم تعد تُباع بالصورة التي يستحقها.. أعظم روائي مصري، والأب الروحي للرواية العربية الحديثة. إلا أن مواصلة دور النشر، وأقسام الأدب في الجامعات الغربية.. التنقيب في أعماله، وإعادة قراءتها ونشرها، تشير إلى أن المشكلة فينا، وتحديداً بعض المثقفين الجدد.. الذين اعتبروا أنه آن الأوان لطي صفحة نجيب محفوظ وآخرين، حتى يحتلوا هم تلك الصفحات.
الأدب الحقيقي لا يمكن تجاوزه، وأعمال أديبنا الراحل.. أهم الوثائق وأكثرها إبداعاً، التي عبَّرت عن مصر القرن العشرين، ولا تزال تنتظر من يدرسها، ويعيد التعامل معها.. كما فعل هشام مطر.
نقلاً عن «المصري اليوم»