عادل نعمان..
… وأتصور أن ما كان من حكايات عن «معاوية» – إذا ما شابها ثمة مثلبة أو مسبة – فإن للشيعة يداً في تهويلها وتضخيمها، وما كان فيها من فضيلة أو مكرمة، فإن أقلام أهل السنة تسارع في تفخيمها وتعظيمها. الطرفان ساهما في الحط والرفع من قدره.. على حد سواء، وهذا كان نصيب كل الخلفاء الذين تسابقوا مع ابن أبي طالب، إلا أن نصيب معاوية كان أكبر وأوفر.. منهم جميعاً، فعَهْدُه كان مفترق الطرق الذي تشتتت فيه العقول والقلوب.
وتعالَ إلى حكايات عن معاوية، وربما تشم فيها رائحة الطرفين.. تفوح تارة طيبة، وأخرى خبيثة. وعن الحكاية الثالثة: «وأنا أول الملوك»، يؤكد «الفضل عن ابن أبي غنية» أن «معاوية» قال قولته هذه، ولها حكاية متداولة.. تقرها أو تنكرها وشأنك. وهي باختصار أن «هند بنت عتبة» – أم معاوية – كانت زوجة لرجل قبل «أبي سفيان بن حرب»..يُدعى «الفاكه بن المغيرة»، وكان كريماً يفتح باب «مضيفته»، الملاصق لباب بيته، لكل عابر سبيل يدخل دون استئذان، يأكل ويشرب.
وتصادف عند عودة «الفاكه» إلى البيت، أن وجد رجلاً يخرج مهرولاً من بيته، فظن أن بينه وبين زوجته هند علاقة. تقول الرواية إنه ضربها وشك في حملها، والمهم أن الرواية تأخذنا إلى أنها أنكرت، ورأى أبوها وزوجها أن يحتكما إلى كاهن في اليمن.. ليفصل في هذا. وكانت معها نسوة، فأخذ الكاهن يضرب على رؤوس النساء حتى وصل إلى هند، وقال: «لا رسحاء ولا زانية، ولتلدنَّ ملكاً يقال له معاوية». وتزوجها أبو سفيان بعد طلاقها من «الفاكه»، وجاءت له بمعاوية.
وكانت العرب تعتمد مثل هذه الأساطير والحكايات.. دليلاً وبرهاناً على صدق إرهاصاتهم وهواجسهم وأحلامهم! وربما كانت رواية مكذوبة، إلا أن الناس قد تناقلوها لتؤكد حق معاوية في الملك! فلا تتعجب!
وعن الحكاية الرابعة: «الصلاة خلف على أتقى، وطعام معاوية أشهى»، جاءت هذه الحكاية عن«أبي هريرة» في «السيرة الحلبية»، و«ربيع الأبرار» للزمخشري. يُذكر أن أبا هريرة – في أيام «موقعة صفين» – كان يستطيب أكل معاوية، ويتسلل إلى موائده، ثم يعود ويصلي خلف «علي». ولما سألوه قال: «أكل معاوية أدسم، والصلاة خلف علي أفضل، وترك القتال أسلم». وهي حكاية رائجة.. ذماً في حق أبي هريرة، وتبنتها أقلام أخرى.. حين ذكرت أن جماعة من أنصار «علي»،كانوا يتسللون لتناول الطعام على موائد معاوية، ثم يعودون للصلاة خلف «علي». ولما سألوهم قالوا: «الصلاة خلف على أتقى، وطعام معاوية أشهى».
فكانوا كمن أراد أن «يكحلها فعماها»، فرفعوا الذم عن واحد «أبي هريرة»، وألصقوها بجماعة من المتقاتلين، وهم أصحاب المصالح والمنافع، وهم كثر في تاريخنا العامر الغامر. و«ابن أبي طالب» هذا، الزاهد الورع التقي، لا يملك لمن أحبوا الدنيا ما يعينهم عليها، أما معاوية فقد فتح خزائنه لمن يبيع دينه لدنياه، وهم أكثر.
النصر في النهاية لرجل الدولة والسياسة والدهاء، وليس لرجل الدين العابد المتعفف. قالها عثمان بن عفان يوماً: «إن الله ليزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن».
والحكاية الخامسة: «تقتله الفئة الباغية»،قالها الرسول عن عمار بن ياسر: «ويح عمار! تقتله الفئة الباغية؛ يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار». وقد كان عمار في صفوف ابن أبي طالب في «معركة صفين»، وقُتل في نفس الموقعة.
فلما وصل خبر مقتله إلى «معاوية» – على لسان «عمرو بن العاص» – تحرّج معاوية أشد ما يكون الحرج، فقد كان الحديث شائعاً بين المسلمين، وخشي معاوية على معنويات جنوده، فإن كانوا هم القتلة فهم الفئة الباغية الظالمة. إلا أن المشايخ قد أسعفوه، ورفعوا عنه الحرج، وأفتوا: «قتله من جاء به لقتال»، يقصدون عليّاً. وإن كان حديث الرسول دليلاً على ضلال معاوية وجيشه – كما وصفهم الرسول – «يدعونه إلى النار»، فقد كان للحافظ ابن حجر مخرجا في هذا أيضاً: «المراد بالدعاء إلى الجنة هو الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي، وهو الإمام الواجب طاعته، وكانوا هم أنصار معاوية، ظانّين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون، لا لوم عليهم». وهذا ما قاله ابن كثير: «وإن كانوا بغاة، فإنهم كانوا مجتهدين.. فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد». وهذا عهدنا بمشايخنا، يسعفون حكامهم ويرفعون عنهم الحرج! وكذلك يفعلون!
وعن الحكاية السادسة: «شعرة معاوية» يُروى أن أعرابياً سأل معاوية: كيف حكمت الشام وبلاد المسلمين عشرين سنة؟ فيرد معاوية: «إني لا أضع لساني حيث يكفيني مالي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها». وهي مقولة كلها سياسة حتى الثمالة، وليس فيها ثمة دين، وأن الغاية تستنزف كل الوسائل الممكنة والمتاحة، وليست الطيبات منها فقط. ومعاوية صاحب مدرسة «الباب الموارب». ولمعاوية حكايات أخرى قادمة: «إن لله جنوداً من عسل».
«الدولة المدنية هي الحل».
نقلاً عن «المصري اليوم»