أحمد الجمال
يبقى المشهد السوري – منذ عام 1968 على الأقل – نموذجاً لحالة دراسة؛ تمثل مجتمعاً زراعياً رعوياً، يضم مدناً كبيرة وحواضر، وأريافاً وبادية. وفيه سكان يتوزعون عرقياً.. بين عرب وأكراد وتركمان وشركس وأرمن. ويتوزعون دينياً.. بين إسلام ومسيحية ويهودية. ويتوزعون مذهبياً وطائفياً.. بين عرب سنة (نحو أربعة وستين بالمائة)، وأكراد سنة (نحو تسعة بالمائة)، وعلويين (نحو عشرة بالمائة)، ومسيحيين أرثوذكس (نحو تسعة بالمائة)، ومسيحيين أرمن (نحو أربعة بالمائة)، وإسماعيليين (نحو اثنين بالمائة)، وتركمان وشركس ويهود (نحو اثنين بالمائة)، كما أن هناك وجوداً للروم الملكيين الكاثوليك!
ويتبع هذا التنوع.. تعدد اللغات – حتى وإن كان بعضها محدود الانتشار – وربما يستخدم في الطقوس الدينية فقط، مع تعدد في اللهجات ضمن اللغة الواحدة، حيث – وعلى سبيل المثال – يمكن تمييز ابن حلب عن أبناء بقية المناطق.. بلهجته وطريقة نطقه بعض الحروف والكلمات.
ولذلك – وبعدما عشنا نراقب ونعاني الحالة السورية – كتبت في مقال سابق عن أن التنوع والتعدد يكون إما مصدراً للقوة أو مصدراً للضعف، حسب ظروف معينة، وقلت إن عناصر تكوين الماء لا تروي عطشاً لإنسان أو حيوان أو نبات، أو تفتت صخراً وتعجن طيناً أو خبزاً إذا اعتمد عليها منفصلة، وإن التعدد يكون مصدر قوة عبر مراحل من الانصهار والامتزاج والتجانس طويلة المدى، هي المراحل الحضارية والثقافية، أى الوجدانية أيضاً فى حياة الشعوب.
وفي هذا السياق أجد لزاماً أن أؤكد نقطة مهمة أو معطى مهماً في تلك العملية التاريخية، وهو دور الدولة الوطنية وسلطتها المركزية فيما يجري ويتم من انصهار وامتزاج وتجانس، لأنها وهي منتج بشري يسعى إليه المجتمع لحماية نفسه من التهديد الخارجي والخطر الداخلي؛ تُعد ضابط الإيقاع أو المايسترو الذي يكفل لكل مكونات الأوركسترا أداء دورها في الوقت المناسب، وبالدرجة المطلوبة ودون خروج على نص اللحن، أو ربما تعد الدولة – رغم الفارق في القياس – مدرب السيرك، الذي يكفل وجود الكواسر مع العواشب في مكان مغلق دون اشتباك أو افتراس، ويكفل قيام كل من في المكان بأداء دوره «نمرته» وفق المطلوب، وإذا غاب المايسترو أو غاب المدرب فإن الفوضى تعم وتطغى سمات التفتت على الجميع، فتعود للوحش وحشيته، ويضطرب أداء العازف وربما يتوقف.. وهكذا المكونات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية والجهوية، إذا غابت أو اهتز دورها أو حادت عن المقومات الصحيحة لهذا الدور؛ فإن الفوضى تعم ويلجأ كل مكون إلى ذاته بحثاً عن الحماية وضمان استمرار الوجود، ولتحل الانتماءات الفرعية محل الانتماء الوطني، وعندئذ يتعين تذكير الجميع بأصل وجودهم ومضمون انتمائهم، مثلما فعل السيد وليد جنبلاط في خطابه في أثناء إحياء ذكرى والده الراحل كمال جنبلاط، الذي اغتيل منذ ما يقرب من نصف قرن، وتردد أن نظام البعث السوري هو من دبر اغتياله، بتعليمات مباشرة من حافظ الأسد.
وقد استمعت لوليد جنبلاط وهو يعلن أنه.. وقد تم القبض على قاتل والده، واعترف القاتل بما فعل، وبمن أمره بذلك، فإن «المختارة» – مقر الجنبلاطيين والحزب التقدمي الاشتراكي – ستتوقف عن المظاهر التي تتبع.. عند وجود حالة فقد وقتل مجهول فاعلها. ثم وجَّه كلامه إلى دروز سوريا – وخاطبهم بالاسم الحقيقي «الموحدون» – فذكَّرهم بانتمائهم العربي.. عندما ناداهم أيضاً «بني معروف»، وذكَّرهم بقادتهم التاريخيين.. سلطان باشا الأطرش، وكمال بك جنبلاط، والأمير شكيب أرسلان، وكلهم عروبيون لم يتخلوا عن عروبتهم ولم يتوانوا عن النضال الوطني الفعلي ضد الاستعمار والاحتلال، وأشار إلى ما أعلن عن زيارة وفد من الموحدين للكيان الصهيوني.. للتبرك بقبر النبي شعيب، وإلى ما ردده الصهاينة عن استعدادهم لحماية الدروز في سوريا.. فأكد رفضه أي موالاة للصهاينة، وأي حماية تأتي منهم.
وغاية ما أود قوله، هو إن استعادة الانصهار والامتزاج والتجانس.. في سوريا، تتم بتفعيل وتعظيم الشعور بالانتماء الوطني والقومي الجامع، الحافل بأحداث وأفعال ومساهمات.. قدمها العنصر الفرعي «الطائفي أو المذهبي أو الإثني» للكل الوطني، فصارت جزءاً لا يتجزأ من السبيكة الحضارية والثقافية الوطنية.
ثم لعلنا نلاحظ أن الدولة الوطنية السورية.. اهتزت، وحادت عن دورها.. منذ وجدت إحدى الطوائف أن ما يحيق بها من ظلم وتهميش، عائد إلى بُعدها عن التمكن من السلطة، فسعت إليها، وكان النفاذ إلى الجيش السوري، وإلى حزب البعث.. هو المدخل، وتطور الأمر بوتائر متسارعة.. لتصبح الطائفة، بل جزء من الطائفة «القرداحيين»، هم السلطة المطلقة.
ومن أسف، أنه عند زوال حكم الأسد الابن، وانهيار الجيش والحزب.. قفزت وحشية الانتقام والتنكيل إلى عقول وأفعال من صارت لهم الغلبة من الطائفة السنية، وشاهدنا – والأسى والحزن يفتكان بنا – ما جرى في منطقة الساحل السوري، التي يسكنها العلويون!
إن هذا الذي سبق، هو أحد دروس المشهد السوري، إنه درس الحفاظ على الدولة الوطنية، والحرص الشديد على أن تؤدي دورها.. المنوط بها تاريخياً.. منذ سعى المجتمع لقيامها، لأن أي حياد عن هذا الدور، يؤدي إلى عواقب وخيمة، تدمر الدولة، وتجعل الانتماءات الفرعية هي الملاذ وهذه هي الخطوط الحمراء، والمعنى في بطن الشاعر.
نقلاً عن «الأهرام»