Times of Egypt

من الذي يكره سوريا أكثر؟! 

Mohamed Bosila
مصطفى حجازي 

مصطفى حجازي 

أكتب هذا المقال، وكلماته تكاد تلهث وراء الأحداث على الأرض في سوريا.. تحاول الكلمات اللحاق بالأحداث.. فلا تُفلِح. شرعت في كتابة هذه السطور.. والموقف في سوريا يقارب النهاية، فالفصائل المسلحة قد استباحت جل الأراضي السورية.. حتى تخوم حمص الشمالية، وباتت على بُعد أقل من مائة وخمسين كيلومتراً من دمشق. وقبل أن أتمها.. كان نظام الأسد في دمشق قد سقط..! 

السوريون، بين مصدق ومكذب.. بأنها الحرية قد تظلهم، وأنه العدل قد يتسيّد عليهم دون غيره، وأنها الكرامة.. قد باتت تداعب أقدارهم وقد تحتفي بهم، أم أنه المجهول. 

وقرابة الانتهاء منها، كانت عملية تطويق دمشق.. كما أعلنها «الجولاني» – قائد ما يسمى هيئة تحرير الشام – قد بدأت، وصارت دمشق على مرمى سهم.. بأقل من ستة كيلومترات. والأهم، أن ملامح يوم تالٍ، أو مشروع سوريا ما بعد حكم القهر العلوي، على يد عصبة حافظ الأسد.. قد بدأت في التشكل. 

فالسيد «أبومحمد الجولاني»، قد صار يخاطب العالم باسمه الطبيعي.. لا بكنيته الداعشية؛ فهو الآن «أحمد الشرع». وهيئة تحرير الشام، يتوارى اسمها من نشرات الأخبار.. ليحل محلها «قيادة العمليات العسكرية الموحدة». 

وفي لحظة كتابة هذا المقال أيضاً، تتبدى مهانة الانهيار في أكثر صورها وجعاً.. يتقهقر الجيش السوري باطراد، وتتهاوى دفاعاته. يترك مطاراته وقواعده.. دون أدنى مقاومة، إلا من بعض مناوشات خائبة.. بعد أن صيّره الحكم الأسدي نموراً من ورق. 

وما يلبث أن يشاح القناع.. عن بعض من محركي عرائس المشهد، قبل أن يسدل الستار مبدئياً.. على فصل الأحداث الأول – ليلة الثامن من ديسمبر 2024 – بهروب بشار، وتسليم نظامه قبل سقوطه؛ حيث يعلن الرئيس التركي أردوغان.. أنه يرجو أن يستمر تقدم الفصائل المسلحة – حتى هدفها الأخير دمشق – دون أدنى تعقيد، مذيلاً ما يقول.. بتوبيخ بشار الأسد، لعدم تجاوبه مع دعوة تركيا.. للجلوس على مائدة حوار؛ لرسم الأفق السياسي لسوريا.. وهو في ذلك لا يكذب..! 

السيد «بشار».. ظن أن الدنيا قد دانت له، ونسي التزامه أمام كفلائه – من روسيا وإيران – وبعض من نظرائه العرب.. بأن يتعاطى بقدر من المرونة، لوضع أفق سياسي ينقذ به بلده الممزق.. من مصير مجهول محتوم. وبكرم وأريحية، تمت إعادة تأهيله في الجامعة العربية.. علَّه يكون أهلاً لإعادة سوريا من تحت الأنقاض.. وإن بدورة جديدة في الرئاسة، ولكن دون ضمانات. إلا أن الرجل مارس ذات الصلف السلطوي الموروث في عائلته، وتوهَّم أن الرقص على حبال التوازنات الإقليمية.. كاستراتيجية معتمدة للبقاء ما زال مجدياً، دون أن يدري أن رقصه لم يعد يَفِتنُ أحداً من القوى المعتبرة في الإقليم والعالم.. وليسقط من حالق. 

بل فيما يسمى لقاء رعاة «مسار أستانا» – الذي يضم روسيا وتركيا وإيران، والمعنيين بإعادة تأهيل سوريا سياسياً.. مع الإبقاء على الأسد؛ ذلك اللقاء الذي جرى في قطر يوم السبت السابع من ديسمبر الجاري، تتبدّى ملامح النهاية. إذ تخرج تصريحات قاطعة من «سيرجي لافروف» – وزير خارجية روسيا المخضرم وصاحب الكفاءة الدبلوماسية الرفيعة – دون تجميل ولا تكلف، بأن ما يعني روسيا.. هو وحدة الأراضي السورية فقط. ويردف «عباس عراقجي» – وزير خارجية إيران.. التي دعمت بشار في سوء تقديره وتعاليه – بأن أحداً لا يستطيع أن يقطع بمصير الرئيس السوري..! 

ظاهر الأمور- ودونما الحاجة إلى التعمق أكثر – يشي بصفقة مُركَّبة؛ أطرافها هم الولايات المتحدة الأمريكية – بإدارة ترامب القادمة وقفازها إسرائيل – ثم روسيا وتركيا وإيران، ولكل منهم وطره.. الذي ليس من ضمنه الإبقاء على نظام عصبة الأسد أو بشار ذاته. 

روسيا قدمت بشار- الديكتاتور الخائب فاقد الصلاحية – على مذبح إنهاء الحرب في أوكرانيا، وقبلت بإعادة تموضعها الجيوستراتيجي، الذي يضمن لها نفوذاً محدوداً في سوريا.. ملامحه تتلخص في نظام في دمشق لا يعاديها، وضمان التواجد في قواعدها على المياه الدافئة في المتوسط. 

تركيا موقفها واضح، ولا يحتمل تأويلاً كثيراً.. وإن تحدوها أحلام الهيمنة الإمبراطورية العثمانية، على أقاليم السلطنة القديمة وسوريا أولها. المطلوب لديها.. إعادة قرابة الخمسة ملايين لاجئ سوريا من أراضيها إلى ديارهم، مع ضمان وجود نظام موالٍ أو ملتزم.. غير مناوئ في دمشق على الأمد البعيد. 

إيران – وإن ستكون الخاسر الأكبر بانهيار النظام العلوي في دمشق، وبقطع طريق الإمداد عبر الأراضي السورية لحزب الله فى لبنان – تتماهى  ببراجماتيتها المعتادة.. مع ترتيبات الشام الجديد – أو الشرق الأوسط الجديد – الذي تنازلت فيه طواعية.. عن بعض – أو كل – أذرعها، في مقابل إعادة تأهيلها في النظام الدولي القادم، وضمان سلامة برنامجها النووي، وليجربها العالم في موضع الشريك الموثوق.. بدلاً من موضع الخصم المناوئ.. الذي حازته اختياراً منذ الثورة الخمينية في عام 1979. المكسب الإيراني داخلياً.. هو احتمالية تقليص قبضة الحرس الثوري على النظام السياسي، أو التحول من الثورة إلى الدولة. 

وفي خطوة قاطعة.. لا تحتمل تأويلاً أيضاً؛ تقدم الولايات المتحدة غطاء سياسياً.. وقدراً وافياً من الشرعية الدولية على العمليات العسكرية للفصائل المسلحة – التي كثير منها – حتى قريب.. بل حتى الآن – مدرج على قوائم الإرهاب الدولي شخوصاً وكيانات – وأولهم أحمد الشرع «أبومحمد الجولاني» قائد هيئة تحرير الشام الآن، وجبهة النصرة في سابق، وحليف البغدادي الداعشي وأحد مخالبه؛ فتستقبل الجولاني في منابر الإعلام الأمريكية الدولية.. متحدثاً بلسان رجل الدولة والبديل السياسي للنظام الساقط. 

يخرج علينا أحمد الشرع – «الجولاني» سابقاً – مرة على شاشة «سي إن إن»، والأخرى من خلال «النيويورك تايمز».. ليخاطب المجتمع الدولي وسفاراته في دمشق، بأن معركتهم كانت مع النظام القمعي للأسد.. من أجل تحرير البلاد؛ وهي الخطوة الواجبة لإقامة «دولة مدنية ديموقراطية»..! 

بل يجعل ظهوره الأول من قمة قلعة حلب – وهي موقع ثقافي وتراثي وفني – لا من منبر أحد المساجد.. كما فعل البغدادي، ليرسل رسالته المتصالحة مع الثقافة والتراث والفن والمدنية. 

… يبدو أن الرجل قد تمت إعادة تأهيله، ليعطي وجهاً مدنياً سياسياً للمعارضة المسلحة السورية. وليرسل بعضاً من رسائل.. أن التفكير في العملية السياسية، وشكل المستقبل السوري.. ما بعد نظام العلويين، قد تم التوافق النسبي عليه بين فرقاء السياسة، وتم التعلم من الحالة الليبية.. بألا يُترك الأمر للفوضى. 

بل بعد دخول دمشق، يوكل «الشرع» للحكومة السورية الحالية.. تسيير الأعمال، ويصبح هو عنوان مرجعيتهم.. وفقاً لوزير عدل النظام الأسدي. 

ويبدو كذلك، أن الطرح الإسرائيلي في المسألة.. قائم على ضرورة أن يبقى الداخل السوري متماسكاً بعد الأسد، وله عنوان سياسي.. يمكن الاعتماد عليه، بل تأهيله لعملية سلام شاملة مع إسرائيل. وعلى هذا، فإن تُرِكَت ليبيا والسودان للفوضى، فذاك يفيد إسرائيل.. في إنهاك مصر. وإن تُرِكَ الداخل العراقي للفوضى.. فذاك يفيد إنهاك العراق ذاته. ففي الجوار الإسرائيلي، يلزم أن تبقى الأمور قيد السيطرة. 

ستختلف التقديرات، حول الجهة – أو الجهات – التي وصلت بالفصائل المعارضة السورية – السلفية التكفيرية المنبت – لهذه الدرجة من الجاهزية والاحترافية القتالية. ولن ينقطع اللغط.. حول أننا نشهد حالة أخرى؛ تربك فيها «الفواعل من غير الدولة» النظم الرسمية للدول، وتتحداها وتستنزفها، وفي الحالة السورية تهزمها. 

ولكن سيبقى حكم التاريخ هو الأعدل.. فيمن كان المتمرد المنشق، ومن كان المناضل في سبيل الحرية. من كان يقتل الدولة، ومن كان يقاتل من أجلها..! 

وفي شأن سوريا.. يبقى السؤال، ليس عمن كان يحب سوريا أكثر؛ فالكل سيدعي وصلاً بـ«سوريا». ولكن لنكن أكثر واقعية ونسأل: من الذي يكره سوريا أكثر..؟! 

هل الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل.. هم من كرهوا سوريا أكثر؛ حين عملوا بدأب.. على أن تبقى سوريا مهشَّمة بمعول آل الأسد، مخنوقة بأحذيتهم على رقابها، على ألا تهدد إسرائيل، وألا يتقارب ضلعا زاوية التحدي للغرب مصر والشام..؟! 

أم إيران، التي أرادت سوريا مطيةً لأطماع مشروعها الإمبراطوري.. هي من كرهت سوريا أكثر..؟! 

أم تركيا، التي تريد أن تعيد المجد العثماني، وتتحكم في الشام العربي، وتحل صداع الأكراد واللاجئين السوريين مرة واحدة.. هي الأكثر كرهاً لسوريا؟! 

أم روسيا، التي لم تجد في غير تهافت الأسد وعائلته.. مَن يضمن لهم تواجداً مطلوباً في الإقليم، يناوئ الغرب ومصالحه، ويحقق الحلم التاريخي الروسي.. بالمنفذ الدائم على المياه الدافئة للمتوسط.. هم من كرهوا سوريا أكثر؟! 

أم عائلة الأسد، هي من كرهت سوريا كراهة التحريم.. منذ حافظ المغتصب الأول للحكم من هذه السلالة، ورفعت أخيه.. الذي طُرِد بعد أن زاد طغيانه، عن حد صار عبئاً على مشروع البقاء الأبدي في السلطة، إلى بشار.. الطبيب الذي ضل ليصبح قاتلاً، ولغ في دم شعبه لأكثر من عقد. أم ماهر، الذي جأرت الأردن ودول عربية أخرى بالشكوى من تجارة المخدرات.. التي كان يديرها حتى يوم السقوط؟. 

هل تلك العصبة الجائرة، هي من كره سوريا أكثر.. حين سحقت رحيق الحياة والإبداع والتحقق لشعب عريق، بل انتزعت الحد الأدنى من القدرة على صناعة حياة.. هم قادرون على صناعتها؛ بحسهم الريادي في الاقتصاد، وبباعهم الواسع في الحضارة العربية والإسلامية؟ 

هل تلك الجوقة المغتصبة – التي لم ترقب في شعب عريق إلّاً ولا ذمةً، وبدعوى الحفاظ على أمنه سجنت شعباً بأكمله بحكم الحديد والنار سيوثق التاريخ في قريب الكثير عن وحشيتها – هي من كره سوريا أكثر..؟ 

هل سوريون لم يجدوا وطناً يعد مستقبلاً.. ولا حواضن ثقافية ولا علمية تؤهل وتعلم؛ حتى صارت الحياة والموت صنوان لديهم.. فحملوا السلاح التكفيري السلفي ضد ذويهم، وروَّعوا مجتمعاتهم باسم الجهاد والتحرير.. هم الكارهون لسوريا بحق..؟! 

أم الشعب السوري المقهور المغلوب.. الذي يتوق أن يكون مثل بقية شعوب الأرض.. ذات القدر والقيمة، هو من كره نفسه وبلده أكثر؛ حين ترخّص في حق القهر، وقَبِل أن تتدنى سقوف إنسانيته.. حتى باتت إما الحياة أو الموت تحت سقف؛ هو حائط قبر لا سقف حياة، فانفجر بعد فوات أوان..؟! 

… وإن جاء السؤال بصيغة الماضي، فهو – دونما أدنى شك – سؤال حال وسؤال مستقبل.. توجب أن نجيب عنه جميعاً، قبل أن تداهمنا تداعيات السقوط. 

فَكِّرُوا تَصِحُّوا.. 
 

نقلاً عن «المصري اليوم» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *