د. أحمد يوسف أحمد
ارتبطت مصر وسوريا – عبر التاريخ – بعلاقة خاصة، وصلت إلى الذوبان في كيان واحد.. مع غيرهما
من الأقاليم العربية، في مراحل تاريخية ممتدة. لكن مصر وسوريا انفردتا.. بأنهما صاحبتا أول تجربة
وحدوية كاملة، بعد استقلال الدول العربية (1958-1961). وانفردتا كذلك.. بأنهما تضامنتا – تضامناً
فعالاً – في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر 1956، وعدوان يونيو 1967، ثم قادتا في أكتوبر
1973.. أنجح حرب عربية في مواجهة إسرائيل.
غير أن اللافت أن العلاقات المصرية-السورية، لم تكن علاقات رسمية.. شهدت نوعاً فريداً من الاعتماد
المتبادل في مجال الأمن، وإنما تميزت بعلاقات محبة غامرة بين الشعبين، وكانت تداعيات انتفاضات ما
سُمي بالربيع العربي.. خير شاهد على هذه المحبة، فقد استقبل الشعب المصري – بكل الحب والتعاطف –
أشقاءه وشقيقاته من الشعب السوري، الذين قُدر عددهم بمليون ونصف المليون، وعاملهم بكل الاحترام،
فعاشوا بيننا كمواطنين.. وليس كلاجئين.
كما أن مصر ثابرت بشأن سوريا.. على سياستها العربية الحكيمة عموماً؛ المتمثلة في حماية كيانات
الدول الوطنية العربية، فلم تقف يوماً مع أي نظام حكم عربي ضد شعبه، وإنما كانت حريصة فقط على
بقاء الدولة الوطنية.. حتى لا تتكرر تجربة العراق بعد الغزو الأمريكي 2003، التي شهد العراق معها
تقلصات داخلية عنيفة، واختراقاً خارجياً متعاظماً. فسوريا – بالنسبة لمصر – ليست كأي دولة، وعندما
سقط نظام الأسد.. الذي فشل في الوفاء بكل وظائفه، وانتهى به الحال نهاية مخزية، فإن مصر لم يكن
بوسعها أن تكتفي بالابتهاج بسقوطه، وإنما كان لابد من موقف متأنٍ مدروس.. من أجل ضمان مستقبل
سوريا؛ وأمنها واستقرارها وسلامتها الإقليمية، وكذلك أمن مصر والعرب، وتماسك النظام الإقليمي
العربي.
ولذلك، كان طبيعياً أن ينشغل المصريون.. بما جرى ويجري في سوريا، وقد شاركت في حوارت عديدة
في هذا الصدد. وسمعت – في هذا السياق – تساؤلات عن الموقف المصري، بل وانتقادات لعدم مسارعة
مصر.. لبناء الجسور مع النظام الجديد كما فعل غيرها. تفهمت التساؤلات، واندهشت للانتقادات؛ فمصر
- بوزنها ورشادة سياستها – ليست الدولة التي تطبق «نظرية الطابور»، بمعنى أن تسارع بالوقوف في
الطابور.. قبل أن تعرف الهدف منه، ولكنها الدولة التي تحسب خطاها، وتحدد الأرض التي تقف عليها،
والغاية التي تريد أن تصل إليها.. حتى تحقق خطواتها الأهداف المرجوة منها.. سورياً ومصرياً وعربياً.
والمسألة – ببساطة – أن حكام دمشق الجدد، لهم خلفياتهم، وممارساتهم المعروفة، وبعد أن وصلوا إلى
السلطة، تبنى قائدهم أحمد الشرع خطاباً جديداً.. شديد الذكاء، روج فيه لسوريا تمحو حقبة الأسد، وتكون
لجميع أبنائها وتسالم جيرانها.
وثمة ملاحظات واجبة في هذا السياق؛ أولاها أنه – في مقابل هذا الخطاب – توجد ممارسات فعلية خارج
دمشق.. ثابتة بالصوت والصورة، تتعارض كلياً مع هذا الخطاب.. على نحو يشكك في الهدف منه.
وتشير الملاحظة الثانية إلى احتكار المشهد السياسي السوري كله.. من قِبَل القوى المسلحة، التي أسقطت
نظام الأسد. وإذا كان هذا مفهوماً – على ضوء قواعد اللعبة السياسية، ومنطق القوة – فإن الغموض يحيط
بمستقبل العملية السياسية في سوريا؛ خاصة أن المرحلة الانتقالية سوف تمتد – وفقاً لتصريحات الشرع –
لأربع سنوات؛ وهي مدة طويلة بلا داعٍ، وتثير القلق.. لأنها يمكن أن تفتح الباب لصدامات داخلية
محتملة.. بين الفصائل ذاتها، التي رأينا أنها بالعشرات. ثم صدامات أخرى.. بينها وبين القوى المدنية التي
شاركت في الثورة، وكان دورها أساسياً، ولم تجد – فيما حدث حتى الآن – تحقيقاً لحلمها.
وبطبيعة الحال، فإن انفراد الفصائل المسلحة، التي أنجزت التغيير في السلطة.. مفهوم، وله سوابقه في
تجارب أخرى، لكن المشكلة.. أن هذا النهج لن يُفضي إلى استقرار، بالنظر لتعقد التركيبة السورية،
واستحالة نجاح أي صيغة للحكم، لا تعكس مكونات الجسد الاجتماعي والسياسي السوري.
وها نحن في انتظار مؤتمر الحوار، الذي لا ندري حتى الآن كيف أختير أعضاؤه، وكيف ستُدار
مناقشاته. لكن المؤكد أن أهميته قد تضاءلت، بعد أن صرّح الشرع.. بأن المرحلة الانتقالية ستمتد لأربع
سنوات، يمكن أن تتخذ فيها السلطة القائمة من القرارات.. ما يُرسّخ أقدامها؛ كما حدث في التعديلات
الأخيرة على المناهج التعليمية، التي مثلت مؤشراً مهماً على تمسك السلطة الجديدة في سوريا.. بفرض
توجهاتها على الجميع، على عكس ما بشر به الخطاب السياسي.. في الأيام الأولى لإسقاط نظام الأسد.
أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتعنينا بصفة خاصة في مصر، وتتمثل في الرسائل الرمزية – غير
المباشرة – التي أرسلتها القيادة الجديدة، كالصورة التي جمعت الشرع بأحد المصريين.. المحكوم عليهم
بالإعدام.. في قضية اغتيال النائب العام الشهيد هشام بركات، وتم نشرها رسمياً. وكذلك الاتصالات التي
جرت مع الفصائل المشابهة في ليبيا، ناهيك عن فيديوهات التحريض والتهديد.. التي لا أريد الإشارة
إليها، إلا بعد التيقن من صحتها.
ولقد سُئلت غير مرة.. عن بدائل الحركة المتاحة لمصر في هذه الظروف، ومن المؤكد أن ثمة حاجة
لنقاش مستفيض في هذا الصدد. وبالتأكيد، فإن النأي بالنفس عن التطورات السورية – بسبب الهواجس
السابقة – ليس الحل. وقد حدث اتصال.. أكد فيه وزير الخارجية المصرية ثوابت الموقف المصري، كما
تم إرسال مساعدات إنسانية، وأتصور أن رغبة حكام دمشق الجدد.. في الحوار مع مصر، يجب أن تكون
واضحة.. وقد قاموا بمبادرات مع دول عربية عديدة. فإن تأكدت هذه الرغبة، أمكن بدء الحوار.. على
أساس أن يبدي كل طرف هواجسه، ويتم السعي لإيجاد الضمانات.. المطلوبة لطمأنة الطرفين. ويمكن
الاسترشاد هنا، بنموذج التواصل التركي-المصري، الذي انتهى بالنجاح؛ رغم أن الخلافات كانت حقيقية،
وفي قضايا أساسية. فإن تحقق النجاح.. فبها ونعمت، وإلا واصلت الدوائر الرسمية المصرية تقييمها
للموقف، وما يتطلبه من خيارات أخرى.
نقلاً عن «الأهرام»