Times of Egypt

«مشروع» تشريد المصريين!

Mohamed Bosila
جمال فهمي 

جمال فهمي..
يشتعل هذه الأيام قلق واسع وعميق في أوساط المجتمع المصري كله تقريباً، عنوانه مشروع قانون حكومي.. وصل إلى البرلمان مؤخراً، يُعالج – على نحو «متهوِّر جداً» – ما يُعرف بمشكلة الإيجارات القديمة لأماكن السكن.. التي يعيش فيها ملايين – ليست قليلة – من المصريين.
أما الذريعة، والدافع المباشر لصياغة مشروع القانون.. الذي أشعل حال القلق والغضب في المجتمع، فهو حكم كانت أصدرته «المحكمة الدستورية العليا».. في شهر نوفمبر من العام الماضي، قضى بضرورة تعديل بندين فقط في قانون الإيجار القديم؛ يتعلقان حصراً بثبات قيمة مبالغ الأجرة المنصوص عليها في عقود الإيجار، التي تمَّت وقت سريان هذا القانون.
وقضى الحكم – في هذا الشأن – بأنَّ تلك القيمة.. لم تعد مناسبةً حالياً وصارت زهيدة جداً، ودعا الحكم الدستوري المُشرِّع.. إلى إدخال تعديل على القانون؛ بما يُلائم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة الحالية، ويستجيب للضرورات التي تفرضها حال التضخُّم الهائلة.. الحاصلة الآن، وما يُصاحبها من انهيار شديد وغير مسبوق في قيمة العملة المحلية.. مقارنةً بما كانت عليه وقت صدور آخر تعديلات قانون الإيجارات القديم.. في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
إذن، الحكم الدستوري تناول فحسب.. مسألة قيمة مبلغ الأجرة، لكنَّ المشروع الذي أعدَّته الحكومة.. اتخذ من هذا الحكم تُكأةً، وذريعةً لتغيير أهمِّ القواعد التي يقوم عليها نظام إيجارات أماكن السكن في مصر، ويُخل إخلالاً جسيماً.. بمبدأ توازن العلاقة بين المستأجرين والمُلَّاك، بل نقل ما بدا أنه انحياز من الدولة – سابقاً – إلى جمهور المستأجرين.. بوصفهم الطرف الأضعف غالباً في العلاقة الإيجارية، إلى الطرف الآخر.. أي مُلَّاك العقارات. وقد تمَّت صياغة هذا الانحياز على نحو لا يخلو من فجاجة، ويهدد بانفجار اجتماعي هائل وقوي وواسع النطاق، لدرجة أن الكثيرين في مصر.. وصفوا هذا المشروع بأنه «يستهدف طرد وتشريد ملايين الناس»، وحرمانهم من المأوى!
هنا لا بد من الإشارة الى أن ما يُسمَّى.. مشكلة الإيجارات القديمة ليس حكراً على مصر وحدها، وإنما هو موضوع قائم في بلدان عديدة أخرى من العالم.. جنوباً وشمالاً؛ ففي مرحلة من التاريخ الحديث – وتحديداً في المساحة الزمنية الواقعة ما بين الحربين العالميتين – بدأت تظهر الحاجة لتدخُّل الدولة في عقود الإيجار.. لصالح المُستأجرين الذين سوادهم الأعظم فقراء وأحياناً مُعدمون، وتفاقم الوضع بشدة ابتداءً من نهاية ثلاثينيات القرن الماضي.. مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.
بعد هدوء غبار الحرب، وما رافقها.. من خرابٍ ودمارٍ واسعين، وأوضاع اقتصادية واجتماعية بالغة القسوة.. كابدها عشرات ملايين الناس في أوروبا وخارجها. في ظل هذه الأوضاع، ازدادت الحاجة إلى تدخُّل الدولة في عقود إيجار أماكن السُّكنى، وفرض مجموعة من القواعد على مُلَّاك العقارات؛ أهمُّها تحديد القيمة التي تراها معقولةً.. لمبلغ الإيجار، وكذلك فرضت الدول على المُلَّاك، أن تكون مُدَّة العقود الإيجارية.. مفتوحةً وتورَّث، كما قيَّدت حرية المالك في طرد السكان، ولو لعدم دفع الأجرة في موعدها.
ترك نظام الحكم الحالي.. ملايين المستأجرين – وجُلُّهم من الفقراء – نهباً لوحش قانون السوق.. طبعاً مع التغيُّر الجذري للظروف؛ بتغيُّر الزمن، والتراجع الملحوظ، وخفوت الحس الاجتماعي.. عند الكثير من النُّخب الحاكمة في بلدان العالم؛ خصوصاً الغربية.. بدأت تظهر قضية «الإيجارات القديمة» مرتديةً رداء الأزمة المُلحَّة، لكن تباينت طرق تعامل الدول معها، واقتصر تدخُّل بعضها.. على إجراء تعديلات تشريعية جزئية على النُّظُم والقواعد القديمة الحاكمة للعلاقات الإيجارية، تركَّزت أساساً على زيادة قيمة الأجرة فحسب، مع ترك الزمن وحده.. يتكفل بباقي أركان القضية ويُزيل عنها ملامح المشكلة، غير أنَّ حكوماتٍ أخرى (كفرنسا وألمانيا مثلاً) اعتمدت التدرُّج.. في إدخال تعديلات جذرية شملت – إلى جانب قيمة الإيجار – مدَّة الإيجارات، وإنهاء تمديدها لأجيال، ومن ثم رفعت القيد نهائياً على المؤجِّرين.. في استخدام سلطتهم لطرد المستأجرين.
غير أنها جميعها تقريباً، أبدت حرصاً شديداً لكي يبدو «التوازن» بين طرفَي عقد الإيجار.. سمةً تستطيع الإشارة إليها في ثنايا بنود تشريعاتها الجديدة.
كانت السلطات المصرية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، تبدو قد التزمت بقدر واضح من الحذر، والحرص في اقترابها من «القضية الإيجارية».. بسبب خطورتها وحساسيتها الاجتماعية الشديدة، ومن ثمَّ وجدنا الدولة – منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي – تضع نفسها ضمن طائفة هؤلاء الذين اعتمدوا نهج التدرُّج.. في الاقتراب التشريعي من قضية الإيجارات القديمة، وذلك.. قبل أن يتخلى نظام الحكم الحالي مؤخَّراً عن كلِّ حذر، ويندفع – بنزق وتهوُّر شديدين – في اتجاه الانحياز التشريعي السافر للمُلَّاك، على حساب ملايين المُستأجرين.. وجلُّهم من الفقراء، وترك هذه الحجافل الهائلة نهباً لوحش قانون السوق – الذي يتهدَّدهم بخطر الحرمان من حق المأوى – بعدما حُرموا من حقوق إنسانية كثيرة، لا تبدأ بالحرمان من الحرية ولا تنتهي بالحرمان من التعليم الجيد والرعاية الصحية، بل ومن الطعام المُلائِم أصلاً.
لقد صاغ نظام الحكم المصري الحالي.. مشروع قانون للإيجار، يُلغي كل التشريعات المتدرِّجة السابقة عليه، ويُنهي – بضربة واحدة وفي موعد زمني واحد – ملايين عقود الإيجار.. التي تمَّت في ظل هذه التشريعات، كما ضاعف فوراً الأجرة في كل العقود بنسبة 2000% بحد أدنى ألف جنيه، وبغير حد أقصى، بما يجعل بعض الإيجارات يقفز الى فوق الأربعين ألف جنيه، والخمسين ألف جنيه، إذا تحوَّل من مشروع إلى قانون سارٍ فعلاً.
كما بدا هذا المشروع أعمى تماماً؛ لا يُميِّز بين مناطق فقيرة وشعبية، ومناطق أخرى نخبوية تُسمَّى بالراقية(!!) مع النص على نسبة زيادة سنوية في قيمة الأجرة الجديدة.. شاهقة الارتفاع، لا تقل عن 15%، بينما في فرنسا وألمانيا وإسبانيا وغيرها من الدول الغنية لا تتجاوز نسبة الزيادة السنوية للأجرة 1% و2% أو على الأكثر 2.5% (!!).
إذن هو فعلاً، مشروع قانون لطرد وتشريد المصريين، وربما «تهجيرهم»، إذا وجدوا لذلك سبيلاً.
نقلاً عن «عروبة 22»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *