تشهد الساحة السورية تطورات متسارعة، في ظل تحولات سياسية وميدانية أعقبت سقوط نظام بشار الأسد. وسط هذا المشهد المتغير، بدأت روسيا، الحليف الاستراتيجي السابق لنظام الأسد، خطوات لإخلاء قواعدها العسكرية في سوريا، وفقاً لتقارير غربية مدعومة بصور الأقمار الاصطناعية. هذه الخطوات تثير العديد من التساؤلات حول دوافعها الحقيقية ومستقبل التواجد العسكري الروسي في المنطقة، ومدى ارتباطه بالتحولات الإقليمية والدولية.
كشفت تقارير غربية عن تحركات روسية لإخلاء قواعدها العسكرية في سوريا، بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد. ووفقاً لشركة “ماكسار”، التي توفر خدمات الصور الفضائية الاستخباراتية، التقطت صور حديثة تظهر بدء روسيا في جمع عتادها العسكري في قاعدة حميميم الجوية بمحافظة اللاذقية.
انسحاب تدريجي أم إعادة تموضع؟
تشير الصور إلى وجود طائرتي نقل ثقيل من طراز “أنتونوف AN-124” على أهبة الاستعداد لتحميل المعدات، فيما ظهرت مروحية مقاتلة من طراز “كا-52” قيد التفكيك، تمهيداً لنقلها. بالإضافة إلى ذلك، يُعتقد أن أجزاء من نظام الدفاع الجوي “S-400” يتم تجهيزها لمغادرة مواقعها.
من ناحية أخرى، تبدو القاعدة البحرية الروسية في طرطوس مستقرة نسبياً، حيث رُصدت فرقاطتان قبالة السواحل السورية، لكن تقارير أخرى أشارت إلى مغادرة وحدة البحرية الروسية في البحر المتوسط ميناء طرطوس.
خلفيات ودوافع التحركات الروسية
تأتي هذه الخطوات وسط تطورات دراماتيكية على الساحة السورية، حيث تغيرت موازين القوى بشكل كبير بعد سقوط نظام الأسد. وقد أثار انسحاب القوات الروسية أو إعادة هيكلتها تكهنات واسعة حول مستقبل النفوذ الروسي في سوريا.
تعد القواعد العسكرية الروسية في سوريا من العناصر الأساسية التي شكلت عمق الوجود العسكري الروسي في الشرق الأوسط، ولعبت دوراً كبيراً في تعزيز نفوذ موسكو في المنطقة.
من أبرز هذه القواعد، قاعدة طرطوس البحرية التي تأسست عام 1977، والتي تعتبر مركزاً حيوياً لإصلاح وتجديد السفن الروسية، خاصة سفن الأسطول الأسود. ومنذ توسيعها وتحديثها في عام 2012، أصبحت القاعدة مركزاً رئيسياً يسمح للأسطول الروسي بالبقاء في البحر المتوسط لفترات طويلة دون الحاجة للعودة إلى روسيا. كما توفر القاعدة ميناءً عميق المياه قادرًا على استقبال غواصات الأسطول النووي الروسي، ما يعزز قدرة روسيا على فرض هيمنتها البحرية في المنطقة.
من جهة أخرى، تعتبر قاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية القاعدة العسكرية الروسية الدائمة الوحيدة خارج حدود الاتحاد السوفيتي السابق. تم استخدام هذه القاعدة في تنفيذ غارات جوية على القوات المعارضة في سوريا، بالإضافة إلى دورها الحيوي في نقل المتعاقدين العسكريين الروس إلى مناطق النزاع في أفريقيا. كما كانت قاعدة حميميم نقطة انطلاق رئيسية لعمليات روسيا في سوريا، ما يجعلها من أبرز المواقع الاستراتيجية في المنطقة.
إلى جانب هاتين القاعدتين الرئيسيتين، تسيطر روسيا أيضاً على عدة قواعد أخرى مثل قاعدة كوباني العسكرية وقاعدة منبج العسكرية. فبعد انسحاب الجيش الأمريكي في عام 2019، سيطرت القوات الروسية على قاعدة منبج، والتي كانت تستخدم لمراقبة وقف إطلاق النار على الحدود التركية السورية، في حين لعبت قاعدة كوباني دوراً في المراقبة ومتابعة تنفيذ اتفاقات وقف إطلاق النار في المنطقة الشمالية.
وفقاً لمصادر سورية، تمتلك روسيا 21 قاعدة و93 نقطة عسكرية في سوريا، ما يجعل انسحابها أو إعادة تموضعها قضية معقدة ذات أبعاد سياسية واستراتيجية.
أبعاد القرار الروسي
يرى الباحث السياسي الروسي يفغيني سيدروف أن الحديث عن انسحاب كامل للقوات الروسية ما زال مبكراً، مشيراً إلى وجود مفاوضات وتفاهمات قد تضمن بقاءً محدوداً في قواعد مثل حميميم وطرطوس. كما أكد سيدروف أن الوجود العسكري الروسي ليس هدفاً بحد ذاته، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تشمل الأبعاد الاقتصادية والسياسية.
مع تغير القيادة في دمشق، قد تواجه روسيا ضغوطاً لإعادة صياغة وجودها العسكري بما ينسجم مع التوازنات الجديدة. وفي الوقت ذاته، يرى الخبراء أن الوجود الروسي الحالي قد يكون مهدداً إذا ما اختارت سوريا التحول نحو المنظومة الغربية، وهو ما يتطلب إعادة هيكلة شاملة للجيش السوري واستثمارات اقتصادية ضخمة.