Times of Egypt

لا وعي بغير علم وثقافة 

Mohamed Bosila
أحمد الجمال

أحمد الجمال 

 
في تراثنا الشفاهي الشعبي حكاية تُعلي من شأن العلم والوعي، وتشير إلى أنه مهما كانت درجة الإخلاص والطاعة وحسن النية والطوية.. فإنها لا تحمي صاحبها من الضلال والقبول بالخطأ وارتكاب الخطيئة، والعكس صحيح.. أن العلم والوعي يحميان صاحبهما ويحصنانه من التضليل ويعصمانه من تصديق الزيف الباطل، حتى وإن كانت له سلبيات. 

وتقول الحكاية: إن إبليس اللعين.. تجسَّد على هيئة رجل شيخ وقور، وذهب إلى متعبد يتعبد في كهف منعزل، والتقى به، وقال له: إن الله أرسله.. ليبلغه بأنه راضٍ عنه وعن عبادته وطاعته، ولكن هناك اختباراً لذلك هو أن معي خمراً وامرأة وطفلاً، وعليك أن تشرب الخمر أو تزني أو تقتل الطفل، ولا خيار آخر. ففكر ذلك المتعبد وقرر أن يرتكب ما من شأنه ألا يؤذي أحداً آخر، فاختار الخمر التي لعبت برأسه وأغوته بالمرأة فهجم، غير أنه رأى الطفل ينظر إليه فخشي أن يشي به فقتله! 

وانصرف اللعين، وهبط إلى قاع المدينة، ليذهب إلى خمارة يجلس فيها عالم واعٍ، فاقترب منه، وقال له: إن الله أرسله إليه ليقول له إنه راضٍ عنه، وأنه متجاوز عن انحرافه بشرب الخمر، وعرض عليه الخيارات الثلاثة؛ فما كان من ذلك الواعي.. إلا أن خلع حذاءه، وأمسك باللعين وضربه على أم رأسه صائحاً: هل يرسل الله رسلًا بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهل يأمر الله بما نهى عنه وحرّمه في كتابه؟! وخرج الرجل من الخمارة تائباً، وانصرف إبليس خائباً حسيراً! 

هذه الحكاية الشعبية تلخص مسألة طالما تشغلنا – في خضم هذه المرحلة – التي انتشر فيها آلاف، بل ربما مئات الألوف، من الأبالسة المدججين بالوسائل التكنولوجية الرهيبة، ابتداء من الإعلام المكتوب والمرئي.. وصولًا إلى وسائل الاتصال إياها، والأخطر مع هذا وذاك.. العناصر البشرية التي يتم اختراق وعيها، والسيطرة على عقولها وتجنيدها – من حيث تدري أو لا تدري – لِبثّ وتداول كل ما من شأنه أن يخترق ويهدم ما سميته – ولا أزال – جهاز المناعة الوطنية.. لأن كل الوسائل التقنية – مهما بلغت قوتها – تفشل في اختراق عقل ووجدان الأمة، ما لم تجد العنصر البشري الذي يحمل ميكروباتها وجراثيمها وفيروساتها، ويطورها في تكوينه، وينقلها إلى الآخرين من بني جلدته؛ أسرته وأهله ومجتمعه، لتتسع دوائر العدوى، وتنهار كل عناصر المناعة الوطنية، لتصنع الشائعات والأباطيل والإفك والافتراء والتزييف.. ما لم تفعله الطائرات والمدافع والدبابات والقنابل وغيرها! 

ولست أبالغ، إذا قلت إن مصر – التي انتصرت في الاستنزاف وأكتوبر، وانتصرت على الإرهاب وعلى الإخوان – لا تزال في معركة شرسة ميدانها هو – كما أسلفت – وعي المصريين وعقلهم ووجدانهم، خاصة أن لدينا مشكلة حقيقية في التعليم الذي هو عملية تحصين العقول والأنفس بالعلم عبر مناهج متدرجة وتربية عميقة، وقد ثبت أنه بغير علم يصبح الباطل والزيف حقاً وصدقاً! 

لقد تحدَّث الرئيس السيسي في غير مناسبة.. عن أهمية الوعي، وتحدَّث عن حملات بل حرب الشائعات والأكاذيب والإفك، التي تدور رحاها ولا تتوقف، ودعا إلى التمسك بالثوابت وعدم التفريط في وحدة الأمة وتماسكها. وهنا أتوقف طويلًا أمام قضية التمسك بالثوابت، لأن كثيرين ممن يزعمون أنهم خبراء استراتيجيون، وممن يروجون لما يعتقدون من براجماتية سياسية؛ ينقضُّون أول ما ينقضُّون على ثوابت الوطن، ويبدأون في تأكيد أنه لا توجد ثوابت، وإن وُجدت فلا ثبات لها، لأن لكل جيل ثوابته التي تنتهي، وهو أمر ناقشته وفصَّلت فيه في مقال نُشر أمس.  

وأؤكد مجدداً أن لوطننا ثوابته التي رسخها، واستمرت معه في كل حقب تاريخه القديم والوسيط والحديث والمعاصر.. وهي عديدة، في مقدمتها الدولة الوطنية الضاربة بجذورها في عمق أعماق تاريخنا منذ قام «مينا – نعرمر» بتوحيد الشمال والجنوب، وتوج رأسه بتاج الوجهين معاً.. وفي مقدمتها أيضاً مفهوم وحدود الأمن المصري منذ الملك ساحو- رع من الأسرة الخامسة إلى حتشبسوت وإلى الآن، وهو أمن حدده أجدادنا بأنه يمتد من شمال منابع المياه المعكوسة التي تجري من الشمال للجنوب (دجلة والفرات) إلى قرن الأرض أي القرن الأفريقي الحالي.. وقس على ذلك ثوابت أخرى، منها الثابت الإيماني بوجود بعث بعد الموت ووجود حساب وثواب وعقاب، ولست بصدد التفصيل في غير ذلك لأن المقام لا يتسع. 

إن قضية الوعى عبارة عن ضفيرة من خيوط كثيرة، على رأسها التعليم والبحث العلمي ودور الأسرة والمدرسة والجامعة والكنيسة والمسجد والنادي والساحة الشعبية وقصور الثقافة وغيرها، ودور الإعلام – أي الصحافة والإذاعة والتليفزيون وبقية وسائل الاتصال – ثم دور السينما والمسرح وهيئات الثقافة ومجالسها.. ثم دور النخب المختلفة؛ النخب السياسية والنخب الثقافية والفنية، والاقتصادية.. في مجالات الصناعة والمال وغيرها.  

و«ثم» هنا لا تعني تراتبياً هرمياً أو في الأولوية، ولكنها تعني.. أن الكل في واحد هو جهاز المناعة الوطنية، الذي يحمي الجسد والعقل والروح المصرية من كل احتمالات الاختراق. 

نقلاً عن «الأهرام» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *