زاهي حواس
ما زلنا نتحدث عن الاكتشافات الأثرية – التي أعلنا عنها يوم الثامن من شهر يناير الجاري، وكشفت عنها البعثة المصرية برئاستي.. أمام أجمل المعابد الفرعونية في مصر، وهو المعبد الجنائزي للملكة حتشبسوت – المعروف بالدير البحري – بالبر الغربي للأقصر. وقد تناولنا في المقالات السابقة ما كشفت عنه الحفائر من آثار مهمة.. تعود إلى عصر الملك أحمس الأول – طارد الهكسوس، جد الملكة حتشبسوت – وكذلك آثار معبد الوادي، والطريق الصاعد للملكة حتشبسوت.
كشفت الحفائر عن وجود جبانة ضخمة تعود إلى العصر البطلمي، الذي بدأ بعد موت الإسكندر الأكبر وتولى أحد قادة جيوشه – بطلميوس الأول – حكم مصر، مؤسساً ما يُعرف بالأسرة البطلمية الحاكمة.. 305 قبل الميلاد، والتي انتهت بموت (أو انتحار) أشهر ملوكها، الملكة كليوباترا، وتحول مصر إلى جزء من الإمبراطورية الرومانية.. في سنة 30 ميلادية. وما كشفنا عنه هناك، هو جزء من جبانة بطلمية مترامية الأطراف.. في المنطقة المعروفة بالعساسيف.
قمنا بالكشف عن مقابر مبنية (بالكامل) بالطوب اللبن، عبارة عن حجرات وصالات.. تعلو سطح الأرض، بينما حجرات الدفن.. يتم الوصول إليها من خلال أبيار محفورة في الصخر. وقد صُممت الحجرات والصالات العلوية.. لاجتماع أسرة المتوفى، وتقديم القرابين، وإقامة طقوس الخدمة الجنائزية على المتوفى. كما تم الكشف عن طراز آخر من المقابر.. عبارة عن حجرات دفن مبنية من الطوب اللبن، ولها أسقف جمالونية.. تتسع لأكثر من فرد، ولها بئر دفن تصل إلى مدخلها، وتستمر في الهبوط حتى تصل إلى حجرة دفن أخرى.. منحوتة بالكامل في الصخر الطبيعي للجبل. ولهذه المقابر مقاصير وحجرات تعلو سطح الأرض.. لإقامة طقوس الخدمة الجنائزية على الموتى المدفونين بهذه المقابر، والتي تسمى «المقابر العائلية».
وقد تم الكشف عن عدد كبير من الدفنات السطحية الفقيرة – التي تتسع لمتوفى واحد فقط – سواء كان رجلاً أو سيدة أو طفلاً. وفي الغالب، لم يتم الكشف عن أي آثار تُذكر.. داخل هذه الدفنات، فيما عدا بعض الأواني الفخارية. أما المقابر العائلية الكبيرة، فقد تم الكشف عن الكثير من القطع الأثرية المهمة، ومنها عملات برونزية.. على أحد وجهيها صورة الإسكندر الأكبر، وعلى الوجه الآخر اسم بطلميوس الأول.
ومن الآثار المكتشفة، عدد كبير من تماثيل التراكوتا، أي المصنوعة من الفخار، والتي تصور حيوانات وطيوراً وأشكالاً آدمية.. بوجوه غريبة طريفة الشكل. هذه التماثيل هي عبارة عن دمى أطفال.. تم دفنها مع الأطفال الموتى. ومن أجمل ما تم الكشف.. عنه إناء من الفخار للإله «بس»، وكذلك عدد من الأواني الفخارية المخصصة لأدوات التجميل.
أما المومياوات التي تم الكشف عنها، فلم تكن محنطة بالمعنى المفهوم.. والمعروف للتحنيط؛ وإنما كانت عبارة عن أجساد موتى.. تم تجفيفها بملح النطرون، ولفها جيداً بلفائف الكتان. بينما كانت مومياوات الطبقات الغنية.. مغطاة بما يُعرف بالكارتوناج – وهو طبقات سميكة من الكتان المغطى بالجص – وعليه رسومات ملونة بألوان زاهية.. تحكي فصولاً من كتاب الموتى وكتب العالم الآخر؛ مثل مناظر تقديم القرابين ومناظر أبناء حورس الأربعة، وهم يقدمون الكتان لتحنيط جسد المتوفى، وكذلك مناظر محاكمة المتوفى.. في قاعة المحاكمة في العالم الآخر.
والخلاصة، أن ما قمنا بالكشف عنه في الجبانة – التي يعود تاريخها إلى العصر البطلمي – هو مقابر لمصريين.. وُلدوا وعاشوا وماتوا في مصر خلال ذلك العصر، وكانت ديانتهم وعاداتهم مصرية خالصة.
كشفت أعمال الحفائر عن عدد كبير من أسرار ذلك العصر؛ عندما كانت مصر تُحكم عن طريق ملوك أجانب من الإسكندرية. منها أن المقابر كانت تُبنى بأقل تكلفة، حتى تلك التي يبدو من مومياوات أصحابها أنهم ينتمون إلى الطبقات العليا من المجتمع، حيث كانوا أيضاً لا ينفقون ببذخ على المقابر.. مثلما كان أجدادهم الفراعنة يفعلون!
وليس هناك من تفسير معين لهذه الظاهرة التي أعتقد أنها كانت بسبب أن الوازع الديني في ذلك العصر لم يكن بنفس القوة التي كان عليها خلال العصر الفرعوني؛ بمعنى آخر أن الإيمان بالدين والعالم الآخر لم يكن على ما يرام خلال العصر البطلمي أو ما تلاه من عصور. كما أن الأمر يمكن أن يكون بسبب مشكلات اقتصادية؛ أو أن تكون له علاقة بالنظام الضريبي في ذلك العصر.
وقد كشفت البعثة عن وجود حالات عديدة لسرقات تمت خلال هذا العصر.. لآثار من عصور سابقة، وإعادة استخدامها في الجبانة.. دون أن يكون هناك أدنى إحساس بخطأ هذا الفعل! ومثال على ذلك تابوت كامل.. مبنى من ألواح من الحجر الرملي. كان هذا التابوت أسفل أرضية مقصورة مشيدة بالكامل من الطوب اللبن. وبمجرد قيام فريق الترميم الخاص بالبعثة بفتح التابوت تم الكشف عن مفاجأة مذهلة للأثريين! حيث تم الكشف عن الألواح الحجرية المكونة لجسم التابوت، واتضح أنها مجلوبة – أو ربما مسروقة – من مقصورة لإحدى الزوجات الإلهيات للإله أمون. يصور أحد المناظر المكتشفة الزوجة الإلهية للإله آمون.. جالسة، وأمامها أمها المتوفاة، وكانت أيضاً تحمل لقب الزوجة الإلهية للإله آمون، بالإضافة إلى وجود مناظر تعبدية أخرى على الألواح المكتشفة، والتي تؤرخ بالعصر الصاوي- الأسرة 26، أو ربما أوائل العصر الفارسي والأسرة 27.
وفي مقصورة تقديم القرابين.. بإحدى المقابر، تم الكشف عن لوحة حجرية من الحجر الرملي في أرضية المقصورة، وبالكشف عنها اتضح أنها مسروقة أو مجلوبة من مكان آخر قريب من الجبانة، وربما يكون من نفس الجبانة. واللوحة يصل ارتفاعها إلى أكثر من 60 سنتيمتراً، وعرضها حوالي 35 سنتيمتراً، وقمتها دائرية، وهي لوحة جنائزية لأحد الكتبة من العصر المتأخر، يُدعى بادي- حور.
وقد سجلت عليها مناظر دينية، تمثله وهو يقدم القرابين للآلهة. أما عن كيفية الحصول على هذه الآثار، فهو ما لا يمكن الجزم معه بسبب. بمعنى أنه لا يمكننا القول بأن هذه الآثار تمت سرقتها خلال العصر البطلمي.. من مقابر أو مقاصير أصحابها! فربما كانت تلك الآثار قد تهدمت بسبب القدم، ولم تكن قائمة في أماكنها، وبالتالي لم يجد أصحابها الجدد.. حرجاً من إعادة استخدامها مرة أخرى في مقابرهم. ومما يؤكد ذلك، أنه قد تم العثور على أعداد كبيرة من أحجار معبد الوادي للملكة حتشبسوت.. مستخدمة في بناء المقابر البطلمية، أو كعناصر معمارية داخل تلك المقابر كأعتاب حجرية مثلاً.
وفي المقابر البطلمية، تم العثور على أعداد هائلة من التمائم والخرز.. المصنوع من الفيانس الأزرق والأخضر، وكذلك عدد من التماثيل.. التي تُعرف في ذلك العصر بالتماثيل الجنسية؛ وهي تماثيل لرجال بأعضاء جنسية كبيرة، أو تماثيل مزدوجة.. لرجل وامرأة في أوضاع جنسية. وحالياً تقوم البعثة بأعمال الحفائر في المنطقة الشمالية من موقع الحفائر.. على أمل العثور على آثار لتماثيل الملكة حتشبسوت؛ حيث هناك احتمال كبير.. بوجود هذه التماثيل مدفونة داخل خبيئة؛ مثل تلك التي كشف عنها هربرت وينلوك.. بالقرب من مدخل المعبد العلوي بالدير البحري.
أما عن سبب الاعتقاد بوجود خبيئة تماثيل لم تُكتشف بعد، فهو عدم العثور على أي آثار من تماثيل.. للملكة حتشبسوت، المعروف عنها أنها من أكثر فراعنة مصر.. الذين تم عمل تماثيل لهم جالسة وواقفة، وفي أوضاع تعبدية، وكذلك هيئات تمثل «أبوالهول».
نقلاً عن «المصري اليوم«