زاهي حواس..
قمنا يوم الأربعاء الماضي بالإعلان للعالم كله.. عن أهم كشف أثري بالأقصر. وقد حضر العديد من الإعلاميين – من مختلف وسائل الإعلام – إلى الأقصر، لتغطية أخبار هذا الكشف المهم.. عند مشارف معبد الملكة حتشبسوت بالدير البحري. وقامت كل من وكالتي رويتر، وإيه بي.. بنقل أخبار الكشف إلى كل وكالات الأنباء، ولو كنا دفعنا ملايين الدولارات في الدعاية، ما كانت مصر لتحصل على دعاية إيجابية.. مثلما حدث عندما أعلنا عن تفاصيل الاكتشافات الجديدة، من البر الغربي للأقصر، التي لا تزال تبهر العالم.. بآثار لا مثيل لها في العالم كله.
حضر – وشارك في الإعلان عن الكشف – كل من السيد المهندس عبد المطلب عمارة محافظ الأقصر، والدكتور محمد إسماعيل.. الأمين العام للمجلس الأعلى للأثار، وكاتب هذا المقال.. رئيس البعثة المصرية بالبر الغربي للأقصر. صاحبة الكشف الأثري الرائع – الذي يضم آثاراً ملكية، يعلن عنها لأول مرة.. منذ الكشف عن مقبرة الملك توت عنخ أمون في 4 نوفمبر عام 1922 – وسوف يسجل التاريخ أنه في يوم 8 يناير 2025.. تم الإعلان عن واحد من أعظم الاكتشافات الأثرية، التي أبهرت العالم كله في بداية عام 2025، ليكون بداية عام خير لمصرنا الحبيبة.
وقد قام الدكتور طارق العوضي – مساعد الأثري المشرف على الحفائر – بتنظيم المؤتمر الصحفي على مستوى رائع، ومعه أعضاء البعثة.. التي تضم كل من الأثريين عبد الغني الصعيدي، ومصطفى عبد الشكور، ومحمد محمد محمود، والمرمم الرائع أحمد فرج الله، وصاحبة الأصابع الذهبية أنهار حسان، التي تقوم بأعمال الرسم الأثري، ومعهم كل من الريس جمال محمود أحمد، والريس عمرو النوبي.. باستغلال إحدى المقابر الصخرية الضخمة والمكتشفة حديثاً بالموقع، لعرض الآثار المكتشفة بأسلوب العرض المتحفي، وبتقنيات رائعة.. تحفظ الآثار الكبيرة من توابيت، وكتل حجرية ضخمة – منقوشة وملونة – داخل أماكنها بنيشات، وحجرات المقبرة، وتلك الآثار الصغيرة من لوحات وتماثيل وأدوات طقسية.. داخل فتارين عرض بالممر الرئيسي بالمقبرة.
عبّر كل من حضر مؤتمر الإعلان عن الكشف.. عن انبهارهم بروعة الآثار المكتشفة، وأسلوب عرضها الرائع.. الذي أتاح لهم رؤية جمال القطع وأهميتها، وفي نفس الوقت.. حمايتها من الزائرين؛ مثلما هو الحال في المتاحف الحديثة. وعندما تحدثت في المؤتمر، شكرت كل من ساعد وساهم في نجاح هذه البعثة الأثرية، التي أفخر بقيادتها والعمل طوال السنوات الثلاث الماضية.. بكل جهد، أمام أروع المعابد الفرعونية.
الكشف الأول؛ يخص الملكة حتشبسوت؛ التي كشفنا عن أكثر من 1500 كتلة حجرية (من الحجر الجيري الملكي) منقوشة وملونة.. من معبد الوادي الخاص بمعبدها الجنائزي الجميل بالدير البحري، والمسمى «جسر جسرو».. بمعنى قدس الأقداس. وهناك أكثر من 100 بطاقة حجرية تم الكشف عنها من الحجر الجيري والرملي والجرانيت، سجلت عليها فقط خراطيش الملكة حتشبسوت، وبها أسماء الملكة؛ سواء الاسم الشخصي حتشبسوت، الذي يعني الأولى، أو المقدّمة على النبيلات، أو اسم العرش «ماعت كا رع» بمعنى العدل هو روح الإله رع، وكانت كل هذه البطاقات الحجرية مدفونة أسفل أرضية معبد الوادي.
ولعل من أهم الآثار التي عثر عليها مع أسماء الملكة.. بطاقة من الحجر الجيري، تحمل اسم ولقب سننموت – المشرف على القصر الملكي لحتشبسوت – وهذا دليل.. يؤكد أنه هو وليس حبو سنب – الكاهن الأكبر لأمون – من بنى معبد حتشبسوت بالدير البحري. أما مناظر الملكة وهي تؤدي الطقوس الدينية؛ مثل طقسة «الحب سد».. أو تقديم القرابين، ومناظر شريكها على العرش الملك تحتمس الثالث، وهو يقوم بحرق البخور للألهة. أما مناظر الإله أمون رع، فتحتاج إلى مجلدات للحديث عن أهميتها، والمعلومات التي تمدنا بها.. عن برنامج مناظر معابد الوادي في الدولة الحديثة، التي – للأسف – لم يبقَ منها سوى النزر القليل، وما لدينا يعتبر كنزاً أثرياً.. بالنسبة لعلماء الآثار، والمهتمين بفنون النحت في مصر القديمة.. بصفة خاصة، وعشاق الحضارة المصرية بصفة عامة.
كشفت البعثة.. عن وديعة أثاث كاملة للملكة حتشبسوت؛ تضم كل الأدوات الطقسية والرمزية.. من الخشب، والفخار الملون، والسلال المغزولة، والمارز من البرونز؛ ومعظمها منقوش بنص كتابي يقرأ: «الإله الطيب ماعت كا رع حبيب (محبوبة) أمون في جسر جسرو». وتنضم تلك الوديعة الملكية – المكتشفة حديثاً – إلى ودائع الأثاث التي كشف عنها من قبل.. كل من شاسيناه وهربرت ونلوك وهيوارد كارتر وغيرهم للملكة حتشبسوت، حول معبدها بالدير البحري.. أو الطريق الصاعد.
أما عن الكشف الأثري الثاني – الذي أثار العالم كله – فهو الكشف عن مقبرة متواضعة العمارة.. رغم كونها لموظف كبير في بداية عصر الملك أحمس الأول – طارد الهكسوس وموحد مصر ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة في 1550 قبل الميلاد – الذي استمر حكمه ربع قرن حتى 1525 قبل الميلاد.
تتكون المقبرة من فناء صغير مفتوح، يليه مدخل قصير مقبى، والفناء والمدخل مشيد من جدران ضخمة من الطوب اللبن – في حالة حفظ ممتازة – عليها طبقة من الجص الأبيض، لا يزال لونه مبهراً.. رغم أن صاحب المقبرة توفي في العام التاسع من حكم الملك أحمس. يؤدي المدخل.. إلى حجرة مربعة التخطيط، وفي أرضيتها – من الناحية الشرقية – بئر ضحلة، تؤدي إلى حجرة دفن صغيرة. وفي أرضية البئر، عُثِر على واحد من أهم أثار عصر الملك أحمس.. وهو عبارة عن لوحة جنائزية مستطيلة، أعلاها مقوس.. من الحجر الجيري، منقوشة بالنحت الغائر. اللوحة يتصدرها منظر الموظف المهم جالسا إلى مائدة قرابين، يشم زهرة لوتس قريبة من أنفه، ويتصدر النقش الكتابي التالي.. صدر اللوحة من أعلى: «العام التاسع من حكم جلالة ملك مصر العليا والسفلى نب بحتي رع يعطي الحياة» ونب بحتي رع هو اسم العرش الخاص بالملك أحمس، ويعني «رع سيد القوة».
لا يمكن وصف شعوري بمجرد أن وقعت عيناي على هذا النقش الكتابي، الذي يحمل تاريخا واضحا ومحددا؟ … ومن أين؟ من عصر الملك أحمس؛ أشهر ملوك الفراعنة، وأندرهم.. من ناحية المصادر التاريخية. يلي هذا السطر الكتابي، باقي النقوش الكتابية على اللوحة، التي اصطفت في سطرين رأسيين.. أمام المتوفى الجالس إلى مائدة قرابين، عامرة بخيرات الأرض المصرية من خبز وجعة ولحوم وخضراوات وفاكهة، بالإضافة إلى خمسة أسطر كتابية أفقية.. أسفل منظر المتوفى، والنص يقرأ: «قربان يقدمه الملك إلى أوزير، سيد مدينة جدو، الإله العظيم، سيد أبيدوس، وإلى بتاح سوكر سيد الجبانة». استحضار (النطق) بالقرابين من خبز وجعة وثيران وطيور وقماش كتان وأواني ألباستر وبخور وزيوت عطرية ومن كل شيء جميل وطاهر يحيا الإله عليه. لعله (المتوفى) يتنفس النسيم العليل، ويشرب من الماء البارد (حرفياً المياه الشاطئية) إلى روح رئيس سائقي العربات الحربية مين نخت بواسطة صديقه ليجعل اسمه يحيا؛ المشرف على قصر أم الملك (أم تعني جدة أيضاً في مصر القديمة) تتي شيري جحوتي مس صادق الصوت المبجل.
نحن هنا أمام لوحة جنائزية نادرة، صنعها صديق لصديقه الجنرال.. قائد مدرعات الفراعنة العجلات الحربية. نقوم حالياً باستكمال أعمال الحفائر والتوثيق للمقبرة، وكل ما عثر عليه بها.. من أثار، ستضيف الكثير من المعلومات التاريخية، إلى تلك التي نعرفها عن بداية العصر الذهبي لمصر، ونستكمل الحديث عنها في المقالات القادمة بإذن الله.
نقلاً عن «المصري اليوم»