د. أحمد يوسف أحمد
أعادت قمة القاهرة الألق للقمم العربية، التي ارتبطت عادة منذ القمة العربية الأولى – في أنشاص عام 1946 – بالقضية الفلسطينية، وها هي القاهرة تأخذ زمام المبادرة مجدداً، وتدعو لقمة طارئة لمواجهة المخطط الشرير لتهجير أهل غزة؛ نجحت في تقديم رؤية شديدة الشمول لمواجهة مخاطر المرحلة الراهنة بالنسبة لفلسطين، وليس فقط لمخطط التهجير.
وتجب الإشادة – بداية – بالموقف المصري.. الذي قاد الجهود العربية في هذا الصدد، الذي عكسته بوضوح كلمة السيد الرئيس السيسي أمام القمة، وهو موقف يدحض كل محاولات التشكيك في السياسة المصرية، التي لا يكل أصحاب هذه المحاولات من تكرارها، ولا يخجلون من تهاوي دعاويهم في كل مرة يتقوّلون فيها كذباً على مواقف مصر الثابتة.. في نصرة القضية الفلسطينية.
ولا يسع المرء سوى إبداء التقدير لمضمون البيان الختامي للقمة، الذي لم يكتف بتأكيد الموقف العربي الواضح.. المتمثل في الرفض القاطع لأي شكل من أشكال تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، والتحذير من أن المحاولات التي وصفها البيان بالآثمة للتهجير، وكذلك محاولات الضم، من شأنها إدخال المنطقة في مرحلة جديدة من الصراعات، وهو معنى مهم.. لا بد من التركيز دوماً عليه، ومفاده أن السياسات الإسرائيلية قصيرة النظر، التي يمكن أن تحقق إنجازات تكتيكية هنا وهناك، سوف تكون المقدمة الأكيدة لاستدامة الصراع بكل كوارثه التي لن تنجو منها إسرائيل، كما شاهدنا منذ 7 أكتوبر 2023.
وقد وضع البيان الختامي للقمة رفض مخطط التهجير.. في سياقه الصحيح، وهو تأكيد الالتزام العربي بخيار تحقيق السلام العادل والشامل الذي يلبي جميع حقوق الشعب الفلسطيني، ويضمن الأمن لجميع شعوب ودول المنطقة بما فيها إسرائيل – وفقاً لمبادرة السلام العربية 2002 – والتعاون مع الجميع في هذا الصدد.. بما فيهم الولايات المتحدة، أي أي المعادلة العربية في هذا الصدد هي نعم للتعاون مع الإدارة الأمريكية، ولكن وفقاً للرؤية العربية، وليس لأي رؤية أخرى.. تضرب عرض الحائط بالحقوق الأصيلة للشعب الفلسطيني.
وفي هذا السياق، يُعتبر اعتماد القمة الخطة المصرية بشأن التعافي المبكر، وإعادة الإعمار في غزة، وحشد الدعم الدولي لها.. هو الرد الإيجابي على مخططات التهجير، ولأن هذه الخطة لا يمكن تنفيذها دون أفق سياسي. فقد اعتمدت القمة أيضاً ما يمكن تسميته أفكار «اليوم التالي العربي»؛ المتمثلة في الفكرة مصرية الأصل.. التي أصبحت عربية التبني باعتماد القمة لها، والمتمثلة في تشكيل لجنة لإدارة غزة، تتشكل من كفاءات من أبناء القطاع تحت مظلة الحكومة الفلسطينية لفترة انتقالية، مع العمل على تمكين السلطة الفلسطينية من العودة لغزة.. تجسيداً لوحدة الأراضي الفلسطينية.
ومن الأهمية بمكان في هذا الصدد أن القمة اهتمت تفصيلاً (بند 12) بقضية الإصلاح السياسي الداخلي الفلسطيني، بما في ذلك إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة.. في أسرع وقت ممكن، وإن كانت عبارة «عندما تتهيأ الظروف»، تفتح الباب لخصوم الإصلاح – المعروفين – لعرقلته، ولا شك أن النجاح في إنجاز الإصلاح.. شرط ضروري لاستمرار السلطة الفلسطينية في تحمل مسؤولياتها.
وبالإضافة إلى هذه القضايا – التي يمكن وصفها بالاستراتيجية – اهتم البيان الختامي للقمة بالقضايا الآنية التي تتصل بالسلوك الإسرائيلي العدواني والتوسعي؛ لا في فلسطين فحسب وإنما في سوريا ولبنان كذلك، فقد أكد البيان الأولوية القصوى لاستكمال تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.. بمرحلتيه الثانية والثالثة، وذلك في مواجهة محاولة الانقضاض الإسرائيلي-الأمريكي عليه، كذلك طالب البيان بوقف العدوان على الضفة بكل أبعاده، حيث يُلاحظ أن إسرائيل تكرر في الضفة حرفياً.. جرائمها في غزة، دون أن تتوافر لها ذريعة 7 أكتوبر.. التي بررت بها تلك الجرائم.
كذلك أكد بيان القمة ضرورة تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان.. بجميع بنوده، وإدانة الخروقات الإسرائيلية له، ومطالبة إسرائيل بالانسحاب الكامل من لبنان.. إلى الحدود المعترف بها دولياً، كما أدان البيان الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا.. والتوغل داخل أراضيها، وكذلك خرق اتفاقية الهدنة لعام 1974، وطالب مجلس الأمن بإلزام إسرائيل بوقف عدوانها، والانسحاب من الأراضي السورية التي احتلتها بعد خرق اتفاقية الهدنة 1974، ناهيك برفض ضم إسرائيل لهضبة الجولان.
والحقيقة، أن السياسات الإسرائيلية في الوقت الراهن، تؤكد – بالبرهان العملي – جميع التحليلات التي كانت تصنفها منذ البداية كسياسات عدوانية توسعية.. ممعنة في انتهاك مبادئ القانون الدولي، بل التزاماتها القانونية التي اضطُرت للقبول بها تحت ضغوط معينة، لكنها تنتهز أول فرصة للتحلل منها، كما فعلت في اتفاقية فض الاشتباك مع سوريا 1974، بحجة أنها لا تأمن نظامها الجديد.. رغم كل تأكيدات قادته نياتهم السلمية تجاهها. وكذلك في اتفاق وقف إطلاق النار الأخير مع لبنان.. برفضها تنفيذ التزامها بسحب قواتها من كامل الأراضي اللبنانية. وفي اتفاق الهدنة الحالي مع «حماس».. الذي انقلبت عليه بحجج مزيفة، وتتشبث حالياً بمقترح مبعوث ترامب.. الذي ينقلب على الاتفاق. وبالمناسبة، فإن الظهير الأول والأخير لإسرائيل في هذه الانتهاكات.. هو الولايات المتحدة عموماً، وفي ظل رئاسة ترامب خصوصاً.
ومن اللافت، أن بيان القمة اهتم كثيراً بالتشديد على الآليات الدولية لمواجهة إسرائيل، فدعا مجلس الأمن – للمرة الأولى – لنشر قوات دولية لحفظ السلام، تسهم في تحقيق الأمن للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي في الضفة وغزة، وإذا كانت تلبية هذه الدعوة.. مرهونة بالفيتو الأمريكي المؤكد، فإن البيان قد تطرَّق لآليات أخرى يمكن أن تكون أكثر فاعلية، ولو من قبيل الإنهاك الدبلوماسي لإسرائيل، والضغط الإعلامي عليها.. كما في حث البيان (بند18) الدول على الالتزام بتنفيذ الرأيين الاستشاريين لمحكمة العدل الدولية، وأوامرها بشأن جرائم إسرائيل، مع التشديد على ضرورة ملاحقة جميع المسؤولين عن الجرائم التي ارتُكِبَت بحق الشعب الفلسطيني.. من خلال آليات العدالة الدولية والوطنية.
كذلك كلفت القمة لجنة من الدول العربية.. الأطراف، باتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948؛ بدراسة اعتبار تهجير الشعب الفلسطيني، والنقل الجبري، والتطهير العرقي، وخلق ظروف طاردة للسكان.. جزءاً من جريمة الإبادة الجماعية.
وإذا كانت قمة فلسطين في القاهرة قد تبنت كل هذه المواقف السليمة، فإن التحدي الأكبر يكمن في تجسيدها على أرض الواقع. وهذه قصة أخرى.
نقلاً عن «الأهرام»