زياد بهاء الدين
التقط الناس أنفاسهم الأسبوع الماضي، بعد تدخل السيد رئيس الجمهورية.. لتوجيه الحكومة بإعادة النظر
في مشروع قانون الإيجار المعروض على البرلمان.
هذه المهلة، ربما تسمح لنا بالتفكير الهادئ.. في موضوع بالغ الخطورة – لتعلِّقه بواحدة من أهم القضايا
الاجتماعية والإنسانية التي تشغل الناس – فالتناقض بين رؤى ومصالح مختلفة في المجتمع؛ ليس أمراً
مزعجاً في حد ذاته، ولا غريباً.. بل هو الوضع الطبيعي. وسبب وجود برلمانات – خاصة إذا كانت
منتخبة حقيقة وممثلة للشعب – هو إيجاد آلية دستورية.. للتفاوض المجتمعي بين المصالح المتناقضة،
والاحتياجات المتعددة.. في ظل الموارد المحدودة.
إذن لنقبل أن هناك – بالنسبة لقانون الإيجار – تناقض وتنازع بين المصالح. ولكنه في تقديري.. ليس فقط
بين مُلاك ومستأجرين، ولا بين أصحاب دخول وأصحاب معاشات، ولا بين الشباب وكبار السن، بل إن
في خلفية هذه التناقضات العملية – إذا جاز التعبير – تنازعاً أهم بين مفهومي.. العدالة القانونية، والعدالة
الاجتماعية.
مفهوم العدالة القانونية – في نظامنا الدستوري الحالي.. الأميل إلى الليبرالية – يعتبر أن الملكية الخاصة
مصونة، ولا يجوز المساس بها.. إلا في أضيق الحدود، وتحت رقابة القضاء.
وهذا المفهوم، لابد أن ينتهي بالضرورة.. إلى رفض امتداد عقد الإيجار، وتثبيت قيمته الإيجارية؛ لأن
الأمرين.. فيهما مساس واضح بحق الملكية الخاصة، وبحق المالك في الاستفادة بثروته.. دون قيد أو
شرط. هذا منطق قانوني سليم في حد ذاته.
أما مفهوم العدالة الاجتماعية، فينظر إلى الواقع والظروف.. التي يعيشها الناس، وما يحقق الأمن
الاجتماعي بينهم. وهو لذلك، يرفض إنهاء العلاقات الإيجارية الممتدة من عشرات السنين؛ ليس لأن هذا
وضع سليم قانوناً، بل لأنه ضروري اجتماعياً.. نظراً لأن السماح بإنهاء العلاقات الإيجارية القائمة فوراً،
يعني وضع قطاع لا يُستهان به من المجتمع.. في حرج بالغ، وفي خطر الطرد من البيوت.. التي لا بديل
عنها للكثيرين (وليس للجميع). وهذا أيضاً منطق اجتماعي سليم.
لهذا، فإن الجدل حول ما إذا كان إنهاء الإيجارات القديمة.. سليماً قانوناً. أم أن استمرارها.. مطلوب
اجتماعياً، هو في النهاية جدل عقيم، لأن المنظورين صحيحان، ولا مجال لتفضيل واحد على الآخر..
بادعاء أنها مسألة قانونية بحتة، أو اجتماعية فقط.
إذن ما العمل؟ وكيف يمكن التوفيق بين المنطقين القانوني والاجتماعي؟ والإجابة في تقديري غير ممكنة..
إلا بالاستناد إلى ثلاثة مبادئ لا يمكن التقدم بدونها:
المبدأ الأول: أن اتخاذ قرار بهذه الأهمية.. وهذا التعقيد، يحتاج معلومات دقيقة. وإلا يصبح الأمر ضرباً
من التنجيم. معلومات عن عدد الوحدات الخاضعة للنظام الإيجاري القديم، ومن يملك من مستأجريها
مساكن أخرى، والأوضاع الاجتماعية للمستأجرين، وغير ذلك من البيانات.. التي لا أتصور أن تكون
غير موجودة، مع تكنولوجيا المعلومات الحالية. ولو بجهد يجب أن تبذله الجهات المعنية.
المبدأ الثاني: مرة أخرى – أنه لا يوجد حل واحد.. لموقف معقد ومتعدد الجوانب بهذا الشكل، بل توافر
المعلومات، يجب أن يتيح وضع سياسة شاملة وعادلة.. تتعامل مع الفئات المختلفة، والحالات شديدة
التباين.
المبدأ الثالث والأخير: فهو أن هذه الفجوة الطبيعية – بين العدالة القانونية والعدالة الاجتماعية – هي
بالضبط.. ما يجب أن تكون الدولة واعية به، لكي تتدخل لملء الفراغ الناجم عنها. بمعنى آخر، هو.. إن
كانت هناك حالات كثيرة، لا يمكن التوفيق فيها بين القانوني والاجتماعي – ولا أظن أنها كل الحالات
الإيجارية القديمة.. بل بعضها – فإن هذا هو ما يجب أن يكون للدولة فيه.. سياسة اجتماعية، وأن تدير له
الموارد، لتدعم وتساعد من يستحقون، إلى أن تنتهي العلاقة الإيجارية.. بعد المدة المقررة.
وأنا لست هنا في مجال اقتراح قواعد تفصيلية، لأن المعلومات المطلوبة غير متوافرة، وإنما قصدي أن
أُلقي الضوء.. على فكرة محددة؛ وهي أن التناقض بين القانوني والاجتماعي.. لن يزول بالتشريع فقط، بل
بتدخُّل الدولة.. حيثما يكون ذلك ضرورياً.
الموضوع حقيقة.. مهم ومعقد. وأمامنا مهلة ليست بالطويلة.. لكي نعيد النظر في الموضوع، ونتعامل
معه.. بالدراسة والفهم والمعلومات، التي توفق فعلاً.. بين القانوني والاجتماعي.
وهذا تعريف السياسة الرشيدة.
نقلاً عن «المصري اليوم»