تابع العالم لحظة فوز «دونالد ترامب» برئاسة الولايات المتحدة، والعالم بالضرورة.. كمن يتابع انهيار سد منذ لحظات تَشَرُّخِه الأولى، وحتى تَصَدُّعِه.. مستشرفاً الطوفان الماحق الذي قد يتبعه.
تأتي التحليلات تترى في شأن كيف جرى ولماذا جرى ما جرى..
نملك من الجرأة والصلف في عالمنا العربي أن نُجَهِّل الأمريكيين وننعتهم بضيق الأفق وجهالتهم بالعالم وانعزاليتهم الدائمة وأنانيتهم.. فهم يختارون «ترامب» المدان في كل ما يحاكم بصدده.. صفيق اللسان الفج، لمجرد أنهم يريدون اقتصاداً أفضل وحياة أرغد، وليذهب بقية العالم إلى الجحيم.
نتحدث وكأننا في علياء ننظر من علٍ إلى هؤلاء الذين مارسوا حق الاختلاف وحق الخلاف، ناهينا عن حق التعبير وحق الاختيار، بأنهم أخطأوا في هكذا اختيار أو أساءوا هكذا تقدير.
إن من فاز في تلك الانتخابات هو الشعب الأمريكي.. أيما كان اختياره حيال مستقبله.. فهذا شأنه.
أما نحن.. فقد آن لنا أن نستشرف ماذا عسانا فاعلون حيال مستقبلنا، علنا نغادر حال المتفرج المندهش أبداً، إلى حال أكثر إنسانية وتفاعلاً مع الحياة بالإرادة والاختيار والوعي والفعل. وليكن في قضية فلسطين – جرحنا النازف والمستنزف منذ قرابة القرن – نبراساً يعين على الاستفاقة ومعرفة ما يتوجب فعله، ولندرك ما فاتنا من أقدار البشر على هذه الأرض.
نقول وعن يقين.. إن السردية الصهيونية القديمة – عن حق إسرائيل في الوجود – تتهاوى وباطراد منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى.. تتآكل يوماً بعد يوم، منذ ثبت باليقين – ومنذ أوسلو- أن حديث السلام هو محض استهلاك تاريخي وسياسي.
استهلاك يراد به التعمية على تكريس واقع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي لفلسطين الذي بدأ قبيل وعد بلفور 1917 والذي لا حياد عنه، لأنه مشروع الغرب للتخلص من شراذم حثالة اليهود الأوروبيين.. الذين باتوا صداع القارة العجوز منذ القرن التاسع عشر.
كان التخلص من تلك الشراذم اليهودية في أوروبا ضرورة حالة، تعاطت معها أوروبا إما بالتطهير العرقي المباشر كما حدث في ألمانيا النازية، أو بلفظهم إلى جغرافيا جديدة؛ حبذا لو جغرافيا خصم حضاري وتاريخي وهم العرب المسلمون، وذلك الحل الذي اقتضى سردية الضلال التاريخي عن وطن يهودي في فلسطين.
سدنة المشروع الصهيوني في داخل فلسطين باتوا يحاولون ترميم تلك السردية الساقطة، بالحديث عن يهودية الدولة تارة.. وبجنون التوسع في الاستيطان تارة أخرى.. ثم بالسعار في القتل والدمار كما يحدث منذ السابع من أكتوبر بحجة هجوم حماس.
وأخيراً بات التوجه المعتمد – صهيونياً وغربياً – لترميم تلك الضلالة التاريخية أو ما بقي منها، هو الانطلاق من الجغرافيا والديموجرافيا لا من التاريخ عند الحديث عن فلسطين وأهلها..
فإن كانت الديموجرافيا تقول إن الشعب الفلسطيني هو بعض شراذم في شتات الداخل وشتات الخارج.. والجغرافيا تقول إن ما تبقى هو فتات من كانتونات محاصرة أو بالأحرى سجون مفتوحة.. فعن أي فلسطين يتحدث الآخرون كما تريد الرواية الإسرئيلية؟
وإمعاناً في الغي.. صرَّح «ترامب» قبيل فوزه عن أساه لصغر حجم إسرائيل وضرورة توسيعها.. وذاك ما يؤذن بفصل جديد، وأراه أخيراً في محاولة ترميم ما تبقى من الرواية الصهيونية المتهافتة.. ولن يخلو الأمر كذلك من التلميح الباهت والمستمر لـ«حل الدولتين»، والتصريح الدائم عن جنان التنمية وأنهار اللبن والعسل التي تنتظر إقليمنا العربي التعس حال قبولنا بما تنتهي إليه قرائح اليمين الصهيوني، بمثل ما كان يهذي به «بيبي نتنياهو» من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة عن شرق أوسط به «محور نعمة»، إسرائيل على رأسه تدير موارده وتستعبد – حرفياً – شعوبه الفاشلة المتخلفة، وفقاً للدلالات الإسرائيلية والغربية وبعض الروايات العربية المتماهية في الضلالة الصهيونية.
فاز «ترامب» أو كانت «هاريس» هي التي فازت، يبقى جوهر النصر في الصراع في إقليمنا العربي هو في التبصر بالحقائق التاريخية، وليس في القبول بأية تخريجات سياسية أو اقتصادية تعيد تعريف أو تحريف التاريخ وأصل الحقوق.
جوهر النصر يكون في تحديد من نحن وماذا نريد لأنفسنا..
لا في التماهي مع ما يراد لنا، وليس في الجلوس ذاهلين متفرجين في انتظار ما يرشح عن الغرب وإسرائيل في شأن مستقبلنا.. فإن قالوا «حل الدولتين» هللنا وباركنا.. وإن قالوا أقلعوا عن اقتفاء الحق والعدل، واركنوا إلى الاقتصاد والتبعية، قبلنا وبررنا وانصعنا..!
ستكون هناك قراءتان لطوفان «ترامب» المتوقع والمحتمل في شأن قضايانا وعالمنا العربي ومستقبلنا..
«قراءة ضالة» مائلة تدَّعي الواقعية والبراجماتية – تُفرَض علينا فرضاً باسم آفاق التنمية والسلام، وهي أقرب للتعامل مع الإقليم وشعوبه على كونه إقليماً من السائمة ضاقت بها رعاؤها..
قراءة استعمارية كنهها القبول والرضوخ والتبرير لما قد تلقيه إدارة «ترامب» من فتات «صفقة قرن» جديدة أو «شرق أوسط جديد» أو «اتفاقات إبراهيمية» لأبناء إبراهيم أو حتى «اتفاقات آدمية» لأبناء آدم..
قراءة مؤداها بعض من تخريجات سياسية عوراء، كحكم ذاتي محدود للفلسطينيين في بعض أحيائهم – ولن أقول مدنهم – في شأن نظافة الشوارع والمرافق وبعض من تعليم وصحة، ذلك كله تحت هيمنة إسرائيلية مطلقة، تتسلط على بقايا الفلسطينيين التي تحيا في «جيتو» ينشأ لهم هنا وهناك في دول عربية آبت إلى الحظيرة الإسرائيلية وقبلت بتلك «الواقعية».
و«قراءة عادلة» معتدلة واجبة تُنشئُ أطروحة عربية جديدة فيها كل الحقيقة التاريخية وكل أمل في مستقبل، حتى لليهود إن أرادوا أن يحيوا بشراً كبقية خلق الله في المنطقة لا سادة على عبيد.
جوهر القراءة الواجبة يبدأ ولا ينتهي بتسمية الأمور بأسمائها وبتحميل كل طرف مسؤولية ومغبة فعله واختياره وانحيازه.
فلا معنى لرطانة تجري عن حدود 4 يونيو 1967 باسم ضرورة حديث الحدود.. وليكن أصل الحديث إذاً عن حدود 28 نوفمبر 1947 عشية قرار التقسيم الآثم.
وإن كان المشروع الصهيوني برمته هو نتاج التصور الأوروبي الكولونيالي لحل المسألة اليهودية في أوروبا، فعلى الطرف الأوروبي أن يقدح قريحته في حلول أخرى غير الاستيلاء الاستيطاني على أرض شعب اسمه شعب فلسطين.
جوهر «القراءة المعتدلة» هو في إسقاط السرديات الملفقة، وعدم التماهي فيها واجترارها.. هو في إحياء الأطروحة العربية للإقليم حتى وإن طمرها خلل ميزان القوى لعقود.
و ليكن السؤال.. إن طُرِحَ «حل الدولتين»، أي دولتين ولماذا دولتين..؟! أي منطق يحكم ويقرر.. العدل أم الأمر الواقع أم إرادة إسرائيل والغرب المهيمن زوراً..؟!
فإن جاءت الإجابة هي الشرعية الدولية.. فأين الكيان المارق المؤسَّس باسم إسرائيل من تلك الشرعية، ليس منذ سبعين سنة ولكن اليوم..؟!
هو كيان أحل نفسه من أن يكون طرفاً مسوداً بالقانون الدولي، أو بالأحرى هو طرف مارق منشق عن الشرعية الدولية مسقطاً لها، وبالتبعية فليس له أن يمارسها انتقائياً هو ومن يدعمه.
وإن كان منطق الرضوخ لواقع وجود إسرائيل.. هو التعويض والإعذار عن المحنة التاريخية لليهود في أوروبا.. فهذا ليس شأننا عرباً وفلسطينيين.. هذا شأن من كانوا سبباً في المحنة.. «فمن أفسد شيئاً توجَّب عليه إصلاحه!»..
أي وببساطة.. إن كان حديثهم عن «دولتين» فهذا شأنهم.. أما شأننا ومن الآن فهو «دولة فلسطين» الواحدة على كامل تراب فلسطين من النهر إلى البحر.. وليكن حول ذلك كل الطنين وكل النقاش وكل الصراع.. وكفانا وهماً وتدليساً وسقوطاً في شراك دخلناها طواعية منذ عقود.
الحديث صادم للبعض ممن تلمسوا المصلحة والبقاء في أن يهجعوا لرواية التنمية وسراب جنة الرخاء.. وكاشف لمن يتسولون في رئاسة «ترامب» المدد والسلوى.. ولكن يقيني أنه حديث متجاوز مَن تجاوزهم الزمن ممن مازالوا قابعين في ثنائيات الآحاد والأصفار، فإما صدام واستنزاف وفدائية أقرب للانتحار، وإما رضوخ وتسليم ومذلة وعجز باسم العقل، سيكون هو حديث رجال الدولة والمؤسسين للمستقبل في كل الأطراف متى وُجدوا، وهم موجودون.
هو حديث «التفاوض بالمقاومة» و«المقاومة بالتفاوض» على أرضية منطقية وتاريخية وقانونية فيها السياسة والمواجهة والمقاربة..!
فها هو «إيلان بابي»، المؤرخ اليهودي الإسرائيلي ذو الضمير الحي، يرصد في تتمة أعماله التي تجاوزت أربعة وعشرين كتاباً عن أصل القضية الفلسطينية وحقيقة الصراع وجذور الادعاءات الصهيونية المتهافتة عن الحقوق في أرض فلسطين.. يرصد تآكل المشروع الصهيوني برمته ويرصد عين التحلل للاستعمار الاستيطاني الصهيوني في جنون توسعه، ويُستقرَأ من حتميات التاريخ أن الأمل الوحيد للنجاة لليهود المستعمرين في عموم فلسطين – ومنذ وعد بلفور وما قبله – هو في القبول أو الرضوخ بالعيش في دولة فلسطينية واحدة كريمة متفضلة تسمح لمن أراد منهم واستطاع البقاء كمواطن لدولة فلسطينية ذات حكم رشيد.
ولمن يراهن على الدعم الأمريكي والأوروبي الأعمى لليمين الصهيوني فيما يقترفه من مجازر وإبادة عرقية في فلسطين على دوام.. ليعلم وذلك من كلام «بابي» و«آفي شلايم» وما يراه عدول كثر.. أن المشروع الصهيوني في فلسطين ورغم الدعم الأعمى صار عبئاً على الأوروبيين، وسيزداد كراهة مع تغير التركيبة الديموجرافية لأوروبا، ومع تبصر كثير من قطاعات المجتمعات الأوروبية بحقيقة التاريخ لما يجري في فلسطين.
ولمن لا يعلم، ورغم الطنطنة الببغائية التي سمعناها من «بايدن» و«هاريس» و«ترامب» عن التعهد السرمدي بدعم أمن إسرائيل وبقائها.. بأن الإدارة الأمريكية لم تعترف بـ«إسرائيل» كدولة في العام 1948 إلا في سياق الحرب الباردة ولاعتراف الاتحاد السوفيتي بها قبلها.. بل كان الموقف الرسمي الأمريكي لإدارة ترومان هو إقامة دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين، وظلت الإدارات المتتالية، وحتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، لا ترى وجاهة حقيقية وضرورة حقيقية لقيام دولة إسرائيل، وبقي الأمر هكذا وحتى اغتيال كينيدي، ولتتغير الأمور تحت إمرة الرئيس «ليندون جونسون» ومن بعده.. وهو أمر قابل للتغير تاريخياً، وقد سمعت هذا بنفسي من بعض عقلاء في أروقة صناعة الرأي والقرار في أمريكا.. وإن ما زالوا قلة.
يرى البعض ويريد في فوز «ترامب» «بداية» للهيمنة الصهيونية على بلادنا من نيلها لفراتها..
ولكنا نراها «نهاية» للمشروع الصهيوني البغيض متى أردنا هكذا.. ومتى أردنا قبلها أن نحيا قدر البشر المكرَّم صاحب القدر والكرامة لا قدر السائمة أيما كانت التخريجات والوعود.
(فَكِّرُوا تَصِّحُوا..)
نقلاً عن «المصري اليوم«