أحمد الجمال
ما كان بالنسبة لكثيرين – أنا منهم – كبيرة من الكبائر المؤثمة ضميريًا وأخلاقيًا.. أضحى – وللأسف – من قبيل اللمم؛ الذي قد يرتكبه المرء في غمرة زحام الحياة، وينساه فور أن يقع. إذ كنا نعتبر مجالسة ذوي الميول والانحيازيات والتنظيرات المنحازة للصهاينة، وللهيمنة الإمبريالية الأمريكية والغربية؛ كبيرة من الكبائر لا يخفف منها إلا التصدي المهين لهم، وتجريح أفكارهم وذواتهم، أو الانسحاب العلني المصحوب بمرافقة هجومية. وإذا لزم الأمر.. فلا مانع من الاشتباك البدني!
ثم جرت في المستنقع دفقات من نوع ما فيه، لنجد أنفسنا وقد جار علينا الزمن، وبقسوة.. لنجلس ونكظم ونصمت، وأحيانًا نجامل ونبتلع تقعيرات الصهاينة من المصريين والعرب، بعد أن سوغنا الأمر.. بضرورة الفصل بين ما هو إنساني اجتماعي، وبين ما هو سياسي أيديولوجي؛ وعليه فقد ينتقل الأمر من خانة المحرمات.. إلى خانة الجائز، أي من الكبائر إلى اللمم.. كما أسلفت. ووجدت نفسي في جلسة مع أصدقاء أعزاء، ثم استدعى أحدهم ضيفًا آخر، ودار النقاش لأجد انحيازًا صهيونيًا بامتياز، وأفجع بعنصرية معادية للفلسطينيين، تكاد تفوق ما عند الصهاينة الإسرائيليين، ونظرة متهكمة متعالية.. على الحشود التي خرجت فى أوروبا وأمريكا – ودول كثيرة فى العالم – تهتف بحياة فلسطين وبسقوط ورفض الإبادة الصهيونية لهم. ومن بين نقاط الحوار اتجهت للحديث عما نسميه الثوابت الوطنية، وجاءني الرد.. بأنه لا توجد ثوابت وطنية، وأنها فزاعة لعرقلة أي اتجاه للتغيير، وأن الصحيح هو أن لكل جيل من المصريين ثوابته؛ التي يمكن أن تضمحل وتتغير، ليأتى جيل آخر بثوابت مختلفة، وضرب مثلًا بثوابت جيل مطلع القرن.. حول السودان والتوسع المصري في إفريقيا، وبثوابت جيل الثلاثينيات بالدستور والجلاء إلى آخره..
بدا الكلام مقنعًا للبعض.. إلا أنني كان لي رأي آخر، هو أن ما يسمى ثوابت مختلفة، لأجيال متعاقبة.. ما هو إلا متغيرات سياسية واجتماعية وثقافية، يتعامل معها المجتمع وفق تكوينه الفكري والسياسي ومصالحه.
أما الثوابت التي أعنيها، فهي الأمور المستمرة.. منذ العصور القديمة إلى الآن، مرورًا بالعصور الوسطى والحديثة. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإن مفهوم ومضمون الأمن الوطني «القومي» المصرى ثابت، لم يتغير منذ عصر الأسرات القديمة إلى الآن، حيث كان وبقي تعريفه.. أنه تأمين مصر، ابتداء من الشمال.. حيث منابع المياه المعكوسة، التي تجري من الشمال للجنوب «دجلة والفرات»، إلى قرن الأرض – أى القرن الإفريقي – الذى يضم الآن الصومال وجيبوتي واريتريا وباب المندب وخليج عدن! ثم إن الدولة المركزية الوطنية – التى أسست لبناتها الأساسية، عندما قام الملك المصرى القديم مينا أو نعرمر.. بتوحيد الوجهين البحرى والقبلى «القطرين» – هي من صميم الثوابت المستمرة.
وحتى الآن، نجد جميع المصريين يدركون حتمية الحفاظ على دولتهم الوطنية، وحمايتها من أي تفتيت أو تفكيك.
وبعدها يأتى ثابت ثالث: هو أن قوام هذه الدولة أو مرتكزاتها هي الأمن والعدل.. وتأمين الوادي ودلتاه من أي عدوان خارجي.. وتأمين حياة الناس من حول النهر.. ثم العدل في الاستفادة من مياه النهر، وفى الالتزامات العامة.
ويأتى ثابت آخر: هو تنظيم وضبط العلاقة بين النهر والبحر والصحراء.. على قاعدة أن مصر المتماسكة، المتجانسة عرقيًا واجتماعيًا وثقافيًا – بالمعنى الواسع للثقافة – تمنع طغيان البحر على النهر «العدوان الخارجي القادم من وراء البحار»، والعكس صحيح؛ فإن البحر (أي العدوان الخارجي) يهجم ويحتل ويسيطر، إذا انهار أو تزعزع التماسك المصري إياه، لأن انهياره يعني فقد التوازن، ومن ثم يحل الضعف والانحلال.
ثم ثابت آخر: هو علاقة العقل والوجدان المصري بالكون، إذ لا عجب ولا غرابة.. في أن تصورات ومعتقدات قدامى المصريين – عن الموت والبعث والحساب والآخرة وأسماء وصفات الإله – هي نفسها المستمرة حتى الآن، وهناك شبه تطابق بين ذلك القديم المصري وبين الأديان السماوية التي اعتنقها المصريون وتوزعوا بينها!
وبعد ذلك يأتى ثابت وطني آخر: هو أن المحروسة كزهرة اللوتس.. تتفتح وتنفتح على محيطها الخارجي، عندما تزدهر وتبقى ناضرة زاهية. وعندما تنكمش وتبدو ذابلة كامنة، فهي غير متصلة بمحيطها الخارجي، ولا مؤثرة فيه.
ومن هنا كانت علاقتها بمحيطها في إفريقيا والشام والعراق والجزيرة العربية.. ليست تعسفًا أيديولوجيًا وليست أمرًا طارئًا مرتبطًا بنظام حكم بذاته.
ويطول حديث الثوابت الوطنية، التى يضرب بها بعض المتصهينين عرض الحائط، وهم يلتقون مع الذين اعتبروا الوطن حفنة تراب عفنة، والعلم الوطني خرقة قماش بالية، وأعلنوها مدوية: «طظ في مصر، واللي فى مصر».. يلتقى الاثنان على الجهل بتلك الثوابت، والعصف بها.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
نقلاً عن «الأهرام»