Times of Egypt

عبدالناصر مقاتلاً.. تجربة حرب فلسطين

Mohamed Bosila
عبدالله السناوي 

عبدالله السناوي..

بقدر حجم الأثر – الذي خلفته حرب فلسطين (1948) – تكتسب اليوميات الخطية للضابط الشاب «جمال عبدالناصر».. أهمية استثنائية، حيث تكشف وتنير ما غمض من شخصيته وتكوينه الإنساني، قبل أن يُطل على مسارح السياسة العاصفة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
في يومياته الشخصية – التي كتبها يوماً بيوم أثناء الحرب – كاد أن ينفجر غضباً.. على أمر انسحاب من الخليل، تلقّاه يوم الخميس (21) أكتوبر قبل أن يُلغى.
«.. إن انسحابنا سيعرّض جميع السكان في عراق سويدان وبيت جبرين إلى التشريد، أو الوقوع في قبضة اليهود. تصورت منظر الأطفال والنساء والعائلات عند انسحابنا، وكيف سيحتل اليهود عراق المنشية والفالوجة».
بعد ما يقارب الـ (77) عاماً، فإن ما أفزعه عن تشريد النساء والعائلات، يستحيل مقارنته بما يجري الآن من إبادة وتجويع وإذلال لسكان غزة.
فى مواضع مختلفة من يومياته، وصف قيادة الحرب بأنها «عاجزة وهزيلة». «الحقيقة أنه لا توجد قيادة للجيش المصري في فلسطين. نفس التقاليد العتيقة.. ونفس المظاهر والتمثيل بدون إنتاج.. لقد كوَّن اليهود جيشاً به دبابات وقوة دافعة في أربعة أشهر، واستطاعوا أن يقطعوا أوصال الجيش المصري، ويعزلوه في جيوب متفرقة، ويقطعوا خطوط مواصلاته.. في عملية استغرقت ثلاثة أيام».
وصل غضبه ذروته يوم (28) أكتوبر: «لقد فقدنا الإيمان في قيادة الجيش.. وقيادة البلاد».
في هذه اللحظة، وُلدت الثورة في قلب رجل، واستقر عزمه على إعادة تأسيس تنظيم «الضباط الأحرار».
تكاد تكون تلك العبارات الصريحة.. لمقاتل في ميدان قتال – بدواعي غضبها – البداية الحقيقية لقصته كلها، كأنها نقطة تنوير مبكرة في نص روائي طويل.
لا شيء يولد في التاريخ.. من فراغ.
كانت حرب فلسطين – ببطولاتها وتضحياتها وأوجاعها، وما كشفته من أوضاع مختلة في قيادة الجيش وقيادة البلاد – المحرك الأول لما جرى في مصر بعد أقل من أربع سنوات.. بإطاحة النظام كله.
لقد سرت في الجيش الجريح.. روح متمردة جديدة؛ بعد نحو سبعة عقود من هزيمة الثورة العرابية، ونفي زعيمها خارج البلاد، وإهانته على أوسع نطاق.

في مذكراته الخطية، وردت إضاءات تاريخية بالغة الأهمية. «مات أحمد عبدالعزيز، وكله أمل في الحياة. لقد تألمت جداً.. لهذه الآمال التي انهارت..».
كان ذلك البطل – الذي رحل في ميادين القتال – هو الملهم الحقيقي لمعاني التضحية وسط الضباط الشبان، وأثره السياسي والإنساني.. يتعدى أي قائد عسكري آخر من رتب أعلى؛ مثل الفريق «عزيز المصري»، الذي نُسبت إليه أبوة «الضباط الأحرار».
تحت اختبار النار، اقتنع «عبدالناصر» بصحة ما ذهب إليه «أحمد عبدالعزيز»؛ من أن التغيير يبدأ من القاهرة.
تحت وهج النيران – على الخط الفاصل بين الحياة والموت – كاد أكثر من مرة.. أن يستشهد.
«كان الرصاص يمر فوق رءوسنا.. حاولنا معرفة مواقع العدو، ولكنها كانت مختفية فاستترنا خلف إحدى الحمالات..».
«لاحظت أن هناك دماً يتساقط على القميص.. فسألت الجاويش عبدالحكيم، الذي أخبرني أن هناك جرحاً بسيطاً في ذقني..».
«ثم قمت للعودة.. فقام العدو بإطلاق نيران شديدة على الحمالة، فشعرت أنني أُصبت في الصدر من الجهة اليسرى.. ونظرت فوجدت أن الدماء تبلل القميص حول الجيب الشمال، وأن القميص به خرم متسع.. وكان محل الإصابة يظهر في منتهى الخطورة.. فوق القلب».
أخبره الطبيب أنها شظية وليست رصاصة، وجرى نقله إلى مستشفى المجدل.
«في غرفة العمليات، وُجدت شظيتان بالجرح».
«ارتفعت روحي المعنوية وحمدت الله، فأول ما خطر على بالي – عند الإصابة – كان الأولاد وأمهم.. والحقيقة، أنه عندما عرفت محل الإصابة.. فقدت الأمل في النجاة، ولكن الله كريم».
كان ذلك يوم الاثنين (12) يوليو.
ثم عاد يوم الأحد (12) سبتمبر، ليروي قصة أخرى أطل فيها الموت على المكان.
«الحمد لله.. دخلت في حقل ألغام بنوع من الخطأ.. وخرجنا بعون الله.. وفي العودة، اصطدمت بعربة من ك١.. ولكن الله سلم..».
لم يدّع أي شجاعة، وقابل قدره برضا وإيمان.. بأن هناك ما يستحق الموت من أجله. الحرب اختبار رجال.. أمام الموت المحتمل في أية لحظة، واختبار آخر.. للمعاني التي يقاتلون من أجلها. وقد كانت المفاوضات التي دخلتها القوات المصرية المحاصرة مع القوات اليهودية – كما كان يطلق عليها في الأدبيات الرسمية – أهم المحطات السياسية والعسكرية، التي تعرّض لها الضابط الشاب وعكست طبيعة نظرته للعدو الذي يقاتله.
روى يوم الأحد (31) أكتوبر: «القائد اليهودي يحضر في عربة عليها علم أبيض.. ذهبت لمقابلته.. يطلب منا التسليم.. نرفض.. يطلب أخذ جثث قتلاه..».
في اليوم التالي كتب: «جمع جثث قتلى اليهود حسب الاتفاق».
«العدو ينقض اتفاقية إيقاف القتال.. بعد استلام جثث القتلى بساعة»..
في الأربعاء (3) نوفمبر، كتب بالحرف: «نقاتل.. ولا نستسلم».
بعد ثماني سنوات، استعاد نص تلك الجملة بحروفها ومشاعرها.. من فوق منبر الأزهر الشريف، حين أعلن مقاومة العدوان الثلاثي (1956).
حسب يوميات «ديفيد بن جوريون»، فإن: «الهدف الرئيسي من إسقاط جيب الفالوجا.. إطلاق قوات الجنوب، ولهذا أصدرت تعليمات إلى سلاح الجو، بأن يركز القصف عليها»، غير أن قوة الفالوجة ظلت تقاوم.. رغم سقوط «عراق سويدان»، والخرق الإسرائيلي لقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار.
قرب نهاية الحرب، ورد تعبير «إسرائيل المزعومة» يوم الثلاثاء (21) ديسمبر (1948).. لأول مرة في يوميات «عبدالناصر».
كان يقينه – رغم خسارة الحرب – أنه سوف يعود مرة أخرى للقتال فيها، وحمل معه إلى القاهرة.. حفنة من تراب الفالوجة في «برطمان»، ودفتر يومياته الشخصية؛ الذي سجّل فيه مكنونات صدره.. التي لخّصها في جملة واحدة: «سنقاتل حتى آخر رجل».
نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.