د. نيفين مسعد
تُسابق مصر الزمن.. من أجل قطع الطريق على المخطط الإسرائيلي-الأمريكي الخبيث، الرامي إلى
تهجير الفلسطينيين من أرضهم.. تحت ذريعة استحالة الحياة في قطاع غزة. وما هذه الاستحالة، إلا نتيجة
للقتل والتدمير الإسرائيلي الوحشي والممنهج.. لكل مظاهر الحياة. تدفع مصر في اتجاه التفاوض، ووقف
إطلاق النار، وتواجه كل المماحكات الإسرائيلية.. بتقديم حلول لكل العُقد.
تطلق حركة دبلوماسية نشطة، لصف الرأي العام العربي والدولي.. ضد مخطط التهجير، وتطرح خطة
متكاملة لإعادة إعمار غزة.. في وجود أهلها البواسل، الذين وُصفت عودتهم من الجنوب إلى الشمال،
بأنها.. لوحة العصر. تدعو لقمة عربية طارئة، وتخرج القمة ببيان.. «يعلن الرفض القاطع لأي شكل من
أشكال تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، أو داخلها.. تحت أى مسمّى، أو ظرف، أو مبرر، أو
دعاوى.. باعتبار ذلك انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي، وجريمة ضد الإنسانية، وتطهيراً عرقياً».
وتحتاج مصر – في تحركاتها – إلى الدعم من كل الدول والقوى.. المؤمنة بحق الشعوب في تقرير
مصيرها، والمدركة أن ممارسات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. ما صارت ممكنة، بعد طي صفحة
الاستعمار من العالم، وأن استباحة أراضي الآخرين ومواردهم بسهولة مطلقة.. تعني العودة لشريعة
الغاب.
في هذا الإطار، انعقد في القاهرة – يوم الخميس 27 فبراير الماضي – مؤتمر دولي بالغ الأهمية.. تحت
عنوان «ضد التهجير القسري لسكان فلسطين المحتلّة». وقبل استعراض أهم الأفكار – التي وردت في
هذا المؤتمر – تجدر الإشارة إلى عدد من الملاحظات الأساسية بخصوصه.
الملاحظة الأولى: هي أن عنوان المؤتمر شديد الوضوح في الهدف منه، بمعنى أنه لم يتخذ منحى
محايداً.. كما هي عادة المؤتمرات بالحديث مثلاً عن التهجير القسرى في ظل القانون الدولي، أو مستقبل
اتفاق وقف إطلاق النار في غزة…إلخ، لكنه اتخّذ منحى لا مواربة فيه بإعلانه أنه ضد التهجير القسري.
وفي الواقع، فإنه لا يمكن الحياد.. إزاء محاولة اقتلاع السكان الأصليين من أرضهم، ومعاقبتهم على
صمودهم الأسطوري، ومحاولة الحصول – بالتحايل السياسي – على ما فشلت في انتزاعه آلة الحرب
الجهنمية. يتصّل أيضاً بالعنوان، أنه لم يتعامل مع جريمة التهجير بشكل مجرد، لكنه ألحق بها وصف
«القسري»، وذلك بعد أن بدأت الدوائر الأمريكية والإسرائيلية.. في الترويج لأكذوبة التهجير الطوعي.
ومبدئياً، فإن دخول حرف التاء على فعل الهجرة، يسقط عنه الإرادة الطوعية. كما أن إغلاق كل منافذ
الحياة، يترك أصحاب الأرض أمام إكراهين: فإما الشهادة، وإما النجاة بأُسرهم. وليس في هذا أي تخيير.
الملاحظة الثانية: هي أن المؤتمر.. كان نموذجاً للتشبيك بين الجهود المصرية والعربية والدولية، وكان
الصوت الفلسطيني فيه.. حاضراً وقوياً ومسموعاً، فلقد كان المؤتمر ثمرة للتعاون بين المجلس القومي
لحقوق الإنسان – الذي مثّله نائب الرئيسة السفير محمود كارم، وأمينه العام السفير فهمي فايد – والمنظمة
العربية لحقوق الإنسان – التي مثّلها رئيسها السيد علاء شلبي – والشبكة العربية لحقوق الإنسان – التي
مثّلها أمينها العام السيد سلطان الجمّالي – ومركز الميزان لحقوق الإنسان بفلسطين – الذي مثّله السيد
عصام يونس – كما مثّل أيضاً الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في فلسطين. وشارك في الإعداد للمؤتمر
اتحاد المحامين العرب، ومنظمة التضامن الأفرو-آسيوي، والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، كما ألقت
كلمة – عبر الزوم – السيدة فرانشيسكا ألبانيز.. مقررة الأمم المتحدة لحالة فلسطين المحتلة.
وهنا أفتح قوسين، لأقول إن كلمة ألبانيز.. كانت قاطعة في رفض خطة التهجير القسري، وتأكيد أهمية
تضافر الجهود العربية مع الجهود الدولية؛ سواء على مستوى منظمات المجتمع المدني، أو على مستوى
دول.. مثل كولومبيا والبرازيل وجنوب أفريقيا.
الملاحظة الثالثة: وهي مهمة، تتمثل في تعهُّد الجهات المنظمة.. بنقل مخرجات المؤتمر إلى المنظمات
الدولية؛ وفي طليعتها الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، والاتحاد الأوروبي، وإلى جامعة الدول
العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي.. حتى لا تظل أصوات المشاركين حبيسة قاعة الاجتماع.
في توصيف خطة ترامب، أعجبني ما قيل عن أنها جعلت من الجريمة – المدانة دولياً – مبادرة سياسية
مطروحة للنقاش. والحقيقة، أن هذا أخطر ما في الموضوع؛ لأن المبادرة الأمريكية تقودنا للتعامل مع
تداعيات ما حدث فى السابع من أكتوبر، وكأنه يمثّل نقطة البداية، وبذلك فإنها تقفز على تاريخ أكثر من
سبعين عاماً من عمر الصراع العربي-الإسرائيلي.
ومن هنا جاء تأكيد المؤتمر.. ضرورة ردّ المسألة إلى أصولها؛ وهي أننا إزاء شعب تحت الاحتلال، وله
الحق في تقرير مصيره، وتسليط الضوء – بشكل خاص – على الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية
في يوليو 2024، الذى يتوافق تماماً مع هذا التشخيص لجوهر الصراع.
ومع أن الأدوات القانونية، قد تبدو أقل فاعلية من الأدوات العسكرية.. في ظل موازين القوى الحالية، إلا
أنها تساعد على عزل إسرائيل على المستوى الدولي، وتشجّع الأصوات المعارضة.. في الداخل
الإسرائيلي. كما كشفت المنظمات الفلسطينية – المشاركة في المؤتمر – عن أنه.. رغم استهدافها – هي
وكل مؤسسات حقوق الإنسان في فلسطين – إلا أنها ماضية في التوثيق الدقيق والمستمر.. لجرائم
الاحتلال، وفي التحرّك القانوني على ثلاثة مسارات؛ أي مع محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية
الدولية، ومع الدول التي تأخذ بالولاية القضائية الدولية.. هذا فضلاً عن اشتغالها على محاولة إنشاء
محكمة خاصة؛ على غرار تلك التي أنشئت في حالات.. مثل رواندا ويوجوسلافيا.
وعندما أتينا إلى قضية إعادة الإعمار – التي تستميت إسرائيل في عرقلتها – كان هناك إدراك للصعوبات
التي تكتنفها، وإدراك أيضاً أنه لا بديل عنها.. مع مسارات الملاحقة الدولية لإسرائيل.
ووضع المشاركون بعض المبادئ.. الحاكمة لإعادة الإعمار؛ منها ألا تفرق بين الشمال والجنوب في
قطاع غزة، وأن تتسّم بالطابع التشاركي الرسمي والشعبي، وأن تقترن بتأكيد أنها تتجاوز البعد الفني إلى
البعدين الحقوقي والأخلاقي، وأن تحميها منظومة للمساءلة القانونية.. لمواجهة أي فساد.
القضية الفلسطينية باقية.. ما بقي شعبها الصامد، وبقي المدافعون عن فلسطين.. الذين يعيدون توجيه
البوصلة في الاتجاه الصحيح، كلما تم حرفها. ولهذا فإن الرفض الأمريكي-الإسرائيلي لمخرجات القمة
العربية تحدٍّ.. يضاف إلى قائمة تحديات سابقة. لكن في مقابل هذا التحدي الجديد، هناك يقين بأنه – في
نهاية المطاف – لن يصح إلا الصحيح.
نقلاً عن «الأهرام»