«لم نكن قادرين أن نقبل أو نتكيف مع فكرة أنَّ أرضنا في سيناء محتلة.. كان الأمر نكداً لنا جميعاً وكرامتنا لا تحتمله».
«لما جاءتنا الأوامر بالعبور لم نصدق.. حتى رأينا الطيران المصري يعبر.. وحينها أقسمنا أننا لن نُبقي إسرائيليّاً حيّاً».
«كنا ثمانية عشر عسكريّاً نأكل من طبقين.. وكان الأكل بالضرورة لا يكفي».
«اضطُررنا في بعض الأحوال أن نستخدم غنائم من أردية قتلى العدو، بعد أن بليت أرديتنا من الزحف.. لكن ذلك لم يجعلنا نفكر إلا في إتمام المهام والتقدم أكثر».
«بعد العبور واقتحامنا خط بارليف وتقدمنا في الفضاء المفتوح لسيناء.. وجدنا تبة صغيرة رفعنا عليها العلم المصري.. وإذا بوابل من الصواريخ الإسرائيلية ومدفعية الهاون تدك موقعنا لمجرد إزالة العلم.. بقينا تحت القصف ساعات، لكن لم يقبل أي منا أن يُزيل العلم ليتوقف القصف».
كانت تلك بعضاً من كلمات الجندي مجند «فتح الله ميرة» جندي مشاة مصري من طليعة العبور يوم 6 أكتوبر 1973.. كما وردت على لسانه في شهادته المسجلة صوتاً وصورة.
لم تشِ أي من كلماته عن نفسه، أو عن زملائه، أو عن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية لمصر قبل أكتوبر 1973- وفي سنوات ما تلا هزيمة يونيو 1967- إلا عن معاناة وعنت وضيق حال، وفقدان أمن في مواجهة عدو غادر غاشم.. عدو لم يتغير سلوكه الوحشي من قتل العُزَّل والأطفال، وسادية مفرطة للبشر والحجر، وكراهية كل ما هو خَيِّر أو إنساني.. لكنها تشي بروح مُقاوِمة مُتشَبثة بالوطن معنى ومبنى.
«لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة.. عندما أقول شرف البلد، فلا أعني التجريد هنا، وإنما أعني شرف كل فرد، شرف كل رجل وكل امرأة».
«إذا ضاع شرف الأمة، فلن يستطيع أي قدر من الغنى أن يعوضنا عنه».
«ليس الشرف هنا مجرد مسألة رمزية.. وإنما شرف أي أمة هو مصدر ثقتها الوحيد بأنها تستطيع أن تتصرف بإرادتها، وأن تحقق ما تشاء».
«القادة لا يولدون.. القادة يُصنعون، يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة.. ما نحتاج إليه هو بناء القادة.. صنعهم».
أما تلك فهي بعض من كلمات الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس أركان الجيش المصري، الذي اضطلع بمهمة إعادة بناء القوات المسلحة بعد هزيمة 1967، والذي استُشهد في موقع متقدم على جبهة القنال في 9 مارس 1969.. كما وردت على لسانه – في شهادة الأستاذ محمد حسنين هيكل عن لقاء جمعهما قبل شهر واحد من استشهاد «رياض» – وأوردها هيكل في مرثية بعنوان «الجنود القدامى لا يموتون».
لم تعدم تلك السنون التي عَبَّرَ عنها الجندي المصري ورئيس أركان الجيش عقب هزيمة 1967، حديثاً لا ينقطع عن ضرورة القبول بالأمر الواقع.. والتعاطي مع واقع التفوق الإسرائيلي الكاسح، والدعم الغربي الأعمى للمشروع الصهيوني، والتصور الغربي.. الرامي إلى تحجيم أو تركيع إرادة أبناء المنطقة العربية ونزح مقدراتهم استعماراً أو تبعية وانكساراً.
لم تعدم تلك المرحلة ما بين هزيمة يونيو 1967 المهينة للكبرياء المصري والعربي – والتي أحدثت شرخاً لم يلتئم إلى اليوم في كرامة الشعوب وثقتها في إنسانيتها، لولا بعض من جبر كسر جاء بنصر أكتوبر المهيب عام 1973- أحاديث عن العيش المشترك وشراكة السلام والتنمية، والقبول بإسرائيل كمجتمع طبيعي ودولة طبيعية لا كشوكة مسممة في خاصرة الإقليم.. وما بين سيف الغرب وذهبه.. وبين ترغيب وترهيب كان من الوارد، وباسم البراجماتية وباسم التعقل، وباسم إنقاذ الشعوب من مصائر التهجير والتجويع والموت والعجز، أن يكون حديث المرحلة حينها عن هكذا تنمية وشراكة.
لكن يبقى الأمر الحري بالتوقف والتأمل هو: لماذا إذاً، والاقتصاد المصري في أزمة وقناة السويس مغلقة أمام الملاحة وعائدها غائب؟.. لماذا وملايين المُهَجَّرين قد شُرِدوا من ديارهم في مدن القناة المصرية الثلاث السويس والإسماعيلية وبورسعيد؟.. ولماذا والعمق المصري مستهدف في مدارسه كأطفال كـ«بحر البقر» ومصانعه كـ«أبي زعبل»؟.. والأهم لماذا وكل أحلام المستقبل الكبرى وآمال المجد التي نسجتها ثورة يوليو.. قد فُسِقَ بها على مذبح الهزيمة وتبددت بالكذب على النفس والنقاق العام وعبادة الفرد؟
لماذا بعد كل ذلك، بقي الحديث عن الكرامة والشرف والأرض وتحريرها.. هو لسان حال ومقال المجتمع المصري برمته.. مواطنيه قبل حاكميه؟.. ولمن يماري فليذكر مظاهرات محاكمات الطيران الشهيرة، ومظاهرات طلاب الجامعات.. في استدعاء حرب التحرير الواجبة والمتأخرة.
هل كان الجندي «فتح الله» أو الجنرال «رياض» أو كل هذا المجتمع المكلوم، بشراً منفصلاً عن الواقع ولا يقدر الضرورة بقدرها؟! هل كانوا حالمين واهمين وهم يتنادون على الكرامة الوطنية وشرف الوطن في رداء معركة التحرير ورد الاعتبار.. حين لم يأبهوا كثيراً لخلل ميزان القوة لصالح العدو الصهيوني ومن وراءه؟!
هل كانوا دمويين محدودي الأفق باحثين عن مجدهم هم.. فلم يأبهوا بدماء أطفال بحر البقر أو عمال أبي زعبل أو ملايين مدن القناة الذين هُجروا وشردوا وبُددت مقدراتهم ودورهم ولقمة عيشهم؟!
لماذا لم يحمل الحديث عن التنمية والشراكة والاقتصاد المزدهر وأحلام الرفاه الزائفة في شراكة سلام مع عدو أبدي وجودي، أي صدى لدى هؤلاء؟!
استشهد «رياض»، الجنرال الذهبي، إحدى علامات العسكرية المصرية علماً وانضباطاً وعقلاً ووعياً بالعالم حوله.. وقبل ذلك وقوفاً عن حدود الوطنية كعسكري محترف يعرف دوره ولا يرنو لما بعده، ويعرف أن تغوُّل عسكريته فيما يتجاوز احترافيتها.. هو محض فساد وإفساد.. قُتل على جبهة القتال مع جنوده.
استشهد بعده «إبراهيم الرفاعي»، أيقونة الصاعقة المصرية، يوم 19 أكتوبر 1973 في غمار النزال مع الإسرائيليين مُقبلاً رافضاً أن يتراجع.. واستشهد قبلهما وبعدهما مصريون لم يقبلوا إلا أن يظل وطنهم مرفوع الهامة، حتى وإن كان في عسرة اقتصاد، حتى وإن كان في انكشاف أمن.
استشهد بمثل هؤلاء في سبيل فلسطين، المصري أحمد عبدالعزيز في عام 1948، إلى شهداء التحرير الفلسطينيين من مختلف المشارب، من غسان كنفاني إلى كمال عدوان، إلى صلاح خلف، إلى ياسر عرفات، إلى الشيخ أحمد ياسين، إلى يحيى عياش، ومتأخرهم وليس آخرهم كان يحيي السنوار.
لم ينتمِ كل ممن ذكرناهم – ممن استشهدوا مواجهة أو غيلة.. في ميدان قتال أو ميدان نضال.. مصريين أو فلسطينيين، ومثلهم آخرون – إلى فصيل أو أيديولوجيا.. بقدر ما انتموا إلى قيم كبرى.. قيم الشرف والكبرياء والإباء والعزة للنفس والوطن.
إذاً لماذا نلمح هكذا – ميلاً بِعَمدٍ عن جادة الشرف والإباء – بدعوى العقلانية والبراجماتية، وأوان التنمية الذي آن، ومحور النعمة الإسرائيلي الذي جاء وقت الهرولة في ركابه، ومحور النقمة الموجود في سواه؟!
لماذا يراد لقيم الفداء والكبرياء الوطني.. أن تصبح حكراً على الفكر الراديكالي والتنظيمات الراديكالية في العالم العربي.. وكأن مقاومة المحتل وتحرير الوطن صارا مَسبَّة تلصق بالأكثر تطرفاً فكراً وفعلاً؟!
لماذا يراد أن تصبح القسمة المائلة على توجهين وكأنهما نقيضان.. فتصبح الوجهة الممجوجة هي ما ينسج إعلامياً على كونه أفعال محور المقاومة الذي يؤمه المتطرفون والتكفيريون والمتنطعون.. ولتصبح المقاومة – زوراً – هي مرادف التطرف والتنطع والتكفير، وتُلصق كل النقائص بقيم الفداء والذود عن الوطن.. وتكون رديفة لرعونة أفعال هؤلاء؟
بينما يصبح الاعتدال.. هو بالضرورة كل ما يرى في الكبرياء الوطنية والعزة والكرامة والمقاومة.. رطانة لا تسمن ولا تغني من جوع؛ وبالتالي هو المحور العاقل البراجماتي.. الذي سلَّم القياد والراية لإسرائيل الكُفُؤة والغرب المهيمن من أجل أن تحيا الشعوب.
ولتصبح الحسبة العوراء – التي يراد لها أن تضحى عقيدة الأجيال القادمة في المنطقة العربية – أن الكبرياء ومقاومة المعتدي والمحتل.. هي أقوال جوفاء، وأفعال رعناء، لا تستجلب إلا الدمار والخراب، وضياع الأمل في التنمية والرخاء. والدرس أمامكم في غزة ولبنان.. وأننا بالضرورة لا نملك – في أحسن أحوالنا – كعرب إلا الأيديولوجيا والكلام، بينما عدونا يملك التكنولوجيا القادرة على إذلالنا.
وعليه فلنرضَ ونقنع بتبعية لإسرائيل ومن صنعوها.
ولكن ليعِ كل هؤلاء المتنطعة بحق من أرادوا أن يلصقوا بمفهوم الذود عن حياض الوطن ومقاومة المحتل معنى التطرف والتضييع أنهم- وبذات القدر- قد جعلوا من مفهوم الاعتدال في شأن الوطن والأرض.. رديفاً للمهانة والمذلة.
وبين المتنطعين نُضَيِّع أجيالاً.. لو لم نع كل هذا الهزل والمسخ، الذي يراد أن يصبح قَيِّماً على حاضرنا ومستقبلنا.
سوامي فيفيكاناندا حكيم هندي – عاش في القرن التاسع عشر – لَخَّص مأساة الهند مع الاحتلال البريطاني فيما سمّاه «العقلية السعرية للمحتل»، التي وإن «تعرف لكل شيء سعراً.. لا تعرف لأي شيء قيمة»!!.
وعليه فلنعلم أنه لا أمل لنا في إقليمنا العربي.. في أمن، ولا مستقبل، ولا تنمية، ولا قدر بين الأمم.. إلا حينما ننشئ أجيالاً حرة سوية، تعرف أن «ليس للحرية سعر، وأن ليس للكرامة سعر، وأن ليس للكبرياء سعر. وأن كل ذلك.. لا يباع ولا يشترى ولا يساوم عليه».. أجيالاً حرة سوية، تعرف أن «ليس للأوطان سعر.. لأن للأوطان قيمة»!
«فَكِّروُا تَصِحُّوا..».
نقلاً عن «المصري اليوم»