Times of Egypt

سوريا.. مؤامرتان وثورة (1-2)

Mohamed Bosila
مصطفى حجازي 

مصطفى حجازي


يُدفَعُ بركان سوريا – الذي بات يغلي قرابة أربعة عشر عاماً- إلى أن يَخمُد قسراً الآن، والأهم.. أن تنبئ حِمَمُه – التي تبرد وتجمد – عن واقع جيوسياسي جديد في العالم العربي، ومحيط الشرق الأوسط الأوسع.

في لحظة كتابة هذا المقال،استقبل «أحمد الشرع»- صاحب سلطة الأمر الواقع في سوريا- السيد «هاكان فيدان».. وزير خارجية تركيا، في زيارة دولة ولقاء رسمي. وقبلها بقليل،التقي «فاروق الشرع» – نائب الرئيس السوري المخلوع – ليدعوه للمشاركة في الحوار الوطني السوري.. المزمع – في أيام قليلة – بين كافة طوائف المجتمع. وقبلها وصل إلى أعتابه في دمشق.. الزعيم الدرزي «وليد جنبلاط»، مع وفد من شيوخ الدروز.. لمناقشة مستقبل العلاقات مع لبنان، ولوقف العبث الإسرائيلي بالملف الدرزي في السويداء وغيرها.
قبل عدة إيام، يأتي وفد أمريكي رفيع المستوى، وقبله وفد أوروبي رفيع أيضاً، لبحث الترتيبات التالية لرفع العقوبات عن سوريا، والبدء في خطوات التعاون الاقتصادي لإعادة الإعمار وغيرها.. وفرنسا ترفع العلم على سفارتها في دمشق، بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً.
وفي تخوم ذلك كله بالضرورة، إسرائيل تحتل كامل الجولان وجبل الشيخ.. بعد أن دمرت مقدرات الجيش السوري عن آخرها، ونزحت بعضها..
الشمال الشرقي السوري، تتنازعه الميليشيات الكردية – المدعومة أمريكياً «قسد» – وتركيا حليفة أمريكا وشريكتها في الناتو..!
«أحمد الشرع» يتغير سمته كل لحظة.. يغادر مظهر قائد الميليشيا، ليتمثل سمت رجل الدولة مظهراً وقولاً.
ما يأتي من تصريحات على لسان الرجل.. كلها مبدئية؛ تحض على الاستقرار، وتطمين الداخل السوري والمحيط الإقليمي العربي وغير العربي.. وبالضرورة السياق العالمي، الذي يهرول لدعم الرجل، ويسبغ عليه غطاء سياسياً.. لا يمكن أن تخطئه عين.
ولمن مازال لا يرى، فقد أُلغيت المكافأة الأمريكية على رأس الرجل.. أي أن الرجل يُعاد تعميده سياسياً.. كمناضل في سبيل الحرية، نجحت ثورته، ويبني دولته!
رغم النداءات المنطقية.. بضرورة تمثيل كافة أطياف الواقع السوري في حكومة دمشق، وعدم القبول باحتكار السلطة من أي فصيل.. ورغم الصبغة الإسلاموية الفجة في حكومة «محمد البشير».. فخطوات الحكومة على الأرض – حتى الآن – تبدو وكأنها خطوات إنقاذ دولة، والأهم.. خطوات تبدو وكأنها خطوات مصالحة وجمع شمل مجتمع، وخطاب سياسي لم يكن ليُتَوَقَّع من جوقة من مقاتلي الميليشيات.. دواعش المنشأ؛ ممن كانوا ذراع تحالف لأبي بكر البغدادي الداعشي.
الأهم مطلقاً، أنها خطوات متتالية منضبطة ممنهجة.. وكأنها تقرأ من سيناريو مُعَدٍّ سلفاً..!
ظاهر الأمور على الأرض – في مجمله وقياساً على من يقومون به، وعقائدهم التكفيرية كما يفترض فيهم – أنضج من واقع ثورات مشابهة في بلدان عربية.. بل يصفه أغلب المحللين بالإيجابية حتى حين. وكأن الجميع يتحين اللحظة.. التي سيبرز فيها النظام الإسلاموي الحاكم في سوريا عن خبيئة أنيابه.
السؤال الذي لا ينقطع في الوعي العربي.. بصيغة الحيرة والاستفهام حيناً، وبصيغة احتكار المعرفة.. والقطع بالإجابة أحياناً، هو -ناهينا عن الظاهر إيجاباً أو سلباً- ما حقيقة الذي جرى في سوريا، أو بالأحرى ما حقيقة الذي يجري في سوريا..؟!
هل هي ثورة من أجل الحياة والحرية.. وقد انتصرت؟ أم أنها مؤامرة.. وقد استحكمت حلقاتها على سوريا وطناً وشعباً؟
وقبل أن نُفَصّل – لصرعى نظريات المؤامرة القاطعين بالعلم بخبايا الأمور، وبولاياتهم على شعوب فاقدة الأهلية – نقول لمقتفي الحقيقة.. الواعين بحركة التاريخ، إن الذي جرى ويجري في سوريا الآن، هو المحتوم.. الآتي مهما تأخر. هو المحتوم المؤجل.. لشأن ما كانت عليه سوريا -وكل ما على شاكلتها – لسبعين سنة أو تزيد.
أما تفصيلاً، فما جرى ويجري في سوريا الآن.. يظل في قلبه حلم الحرية، والتوق للحياة في ظل العدل والكرامة.. حلم يهدي نفوساً ثائرة لم يعد في قوس صبرها منزع..
«حلم يقود ثورة.. لا حلم تقوده ثورة»..!
وهو ذاته، الحلم الذي تجاذبته معاول اللئام، ليصير إطاره وناظم حركته مؤامرتين.. مؤامرة تخبو ومؤامرة يراد لها أن تستعر.
مؤامرة أَفلَت وخبت جذوتها؛ هي مؤامرة عصبة الأسد على سوريا، وطناً وبشراً ومقدراتٍ وتاريخاً.. منذ المغتصب الأول حافظ، حتى رحيل مجرميه الأخيرين.. بشار وماهر؛ العصبة الجائرة.. التي كرهت سوريا كراهة التحريم، حتى سحقت رحيق الحياة والإبداع والتحقق لشعب عريق.
الجوقة المغتصبة – التي لم ترقب في شعب عريق إلّاً ولا ذمة، وبدعوى الحفاظ على أمنه – سجنت شعباً بأكمله، أهانته وأذلت إنسانيته بحكم الحديد والنار، سيوثق التاريخ في قريبٍ.. الكثير عن وحشيته.. حتى صار الشعب المبدع القادر هملاً لاجئاً، يتكفف الأمن في كنف دول العالم؛ تتقاذفه أنواء السياسة، يتسول لقمة العيش والحياة، وتتقاذفه قبلها رحمة الرحماء وبغض اللئام.
المؤامرة التي خَبَت، تبقى أشراطها وملامحها.. غير خافية على عاقل، ولا يقبلها إنسان ذو فطرة مستقيمة. لا يمكن إنكارها أو تبريرها، أو التخفف في وصف بشاعتها..جعلت سقوط نظام العصبة محتوماً. والأهم، جعلت من هذا السقوط – وما مثله – فضيلة وواجباً، تأثم الإنسانية إن غضت الطرف عنهما. وجعلت من سقوط سوريا الوطن.. كابوساً قيد التحقق، لولا أن تدركنا رحمة الخالق سبحانه.
و رغم أنه -وكما تقول العرب بأنه – «ليس بعد العين أين».. فالتذكرة ببعض من قسمات تلك المؤامرة، التي بقيت قرابة السبعين سنة، ومن تجليات حكم البعث الأولى.. تنفع العاقلين قبل المؤمنين..
فحين جعل النظام الأسدي من الشعب السوري ومؤهليه.. عدوه الأول، كانت المؤامرة.
وحين أمر الـ «بشار».. بتوجيه فوهات بنادق جيش سوريا، لصدور الشعب الحالم بالحرية.. لا لصدور أعدائها، كانت المؤامرة.
حين توهم الـ «بشار» أنه الدولة وأنه الوطن، وأنه ورث الأرض بما عليها ومن عليها، لا راد لقضائه فيه، ولا حسيب على فعله.. كانت المؤامرة.
وحين أراقت عصبة الأسد مقدرات الشعوب وثرواتها.. على مذبح نزوات الزعيم.. كانت المؤامرة.
وحين رأى الطاغية ذاته ذاتاً فوق البشر، وفي شعبه سائمة دون البشر.. كانت المؤامرة.
وحين استقى الـ «بشار» استدامة بقاء سلطته.. في الخنوع للقوى الدولية، ورضا المماليك والأوليجاركية.. لا في رضا شعبه.. كانت المؤامرة.
وحين اختُزلت الدولة في عصبة حكم، تحتكر القول والفعل والصمت.. كانت المؤامرة.
وحين احتُقر القانون، واستُبيحت المؤسسات.. كانت المؤامرة.
وحين ارتجى الأمن القومي في سلاح مكدس، واللعب على حبال توازنات القوى الكبرى، ولم يُرجَ في حلم في وطن يرعى ويجمع.. كانت المؤامرة.
حين وسعت بلاد الأرض السوريين.. حرية وتعبيراً وإبداعاً وفكراً، وتحققاً وحلماً، وضاقت عليهم بلادهم.. كانت المؤامرة.
أي أنه – وببساطة – حين يُحتَكر الحكم، ويُحتَقر الشعب.. تكون المؤامرة، ويكون السقوط محتوماً.
أما وكانت تلك بعضاً من قسمات المؤامرة التي خبت.. فماذا عن تلك التي يُراد لها أن تستعر..؟!
ليس ثمة تزيُّد.. أن يكون ما يحدث اليوم في سوريا، هو عملية تدليس سياسي واجتماعي كبرى، يقودها الإسلامويون.. حتى ينالوا وطرهم من اعتلاء ذرى السلطة، بعملية ديمقراطية حقيقية.. ولمرة واحدة، وليحرقوا كل مرتقيات السلطة بعدها، ولتبرز أنياب طغيانهم على أسوأ ما تكون، سائرين بذلك.. على درب سابقيهم في أقطار أخرى.
أو أن ما نشهده.. هو تصور أكثر حنكة وتقدمية وحرفية؛ مؤداه أن تدخل سوريا عتبات الشرق الأوسط الجديد.. كدولة شبه موحدة، شبه مستقرة، ولكن مُنتَزَعة البأس، غير قادرة على تحدي أو تهديد أي من جيرانها، وعلى رأسهم إسرائيل. على أن ينعم الشعب- المهان تحت حذاء آل الأسد لعقود- بمجتمع منفتح نسبياً، به قدر من الحيوية والحرية، والقدرة على الحياة الكريمة، وإن ليس بشروطه.. ولكن بشروط من يضمنون استقراره، والقادرين على خلخلة هذا الاستقرار، وسحقه في أي لحظة.
ويكون بذلك.. ما نتابعه الآن من واقع سياسي واجتماعي يتشكل في سوريا، هو الطبعة الأكثر تنقيحاً ودهاء.. لما أريد منذ عدة سنوات، وهو الإبقاء على نظام الأسد.. زعيماً من قش على سوريا المقسمة. لا يملك إلا حماية قصره ومصالح عصبته. والأهم، قادر على إحداث أكبر قدر من الأذى والوحشية.. على شعبه الأعزل. وفي ذلك مزية مطلوبة في المحيط العربي، وهي التأكيد على كون الشعوب.. سائمة بلا إرادة؛ ثارت أو لم تثر، طلبت الحرية أو ذهلت عنها. فمآل ذلك ليس مرهوناً بإرادتها، ولكن بإرادة من يتسلطون عليها.
وقد أفشل هذا التصور المتهافت.. صلف الـ«بشار» نفسه، وضلالاته بأنه ذو حظوة وخصوصية.. لدى كفلائه في إيران وروسيا وبعض دول المنطقة. وكان هذا الصلف والجمود خيراً للشعب السوري؛ حيث أكد – للحلفاء قبل الخصوم – أن هذا البائس ذاته، هو الخطر.. حتى على مصالحهم، رغم انسحاقه في خدمتهم لعقود. وليلج الشعب السوري للمستقبل.. من باب «الثورة» لا من باب «الصفقة».
وفي ذلك، وجه المؤامرة الأخرى – التي تُحاك خيوطها.. منذ فجر انتفاضة البسطاء في درعا عام2011 عليهم، وباسم ثورتهم – أطرافها إسرائيل والولايات المتحدة وتركيا، وبعض من محيط عربي.. فيما تلا – لاستغلال زخم الثورة، وحقيقة نبل طلب الحرية.. لبناء كيانات مرتزقة موالية، تكون معاول الهدم، ومخالب السطو، والاستغلال لمستقبل الشعب المسالم. مؤامرة.. قد تكون رهن التنفيذ الآن – بوجوه وأسماء سورية – ولكنها ليست في حقيقتها كذلك..!
وإن في كثير مما قيل.. ما يشفي صدور ويريح سرائر المولعين بالمؤامرات، وتفسيراتها، وكونها الحقيقة الوحيدة في حياتنا كعرب.. وأن أي حديث عن إرادة عربية أو عقل عربي أو أحلام عربية.. هو محض وهم، فنقول.. إن الحقيقة الوحيدة الباقية – بين واقع هاتين المؤامرتين – هي حقيقة الحلم والعقل والوطن والثورة، ولكنها حقيقة مشروط حضورها.. بحضور أهلها؛ وهم الأمة السورية.
وفي ذلك يأتي تفصيل في مقال تالٍ..
فَكِّرُوا تَصِحُّوا..
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.