أحمد الجمال
عن عمد مني، ربطتني المصادفة.. بمن عمدوا بدورهم إلى أن تجمعنا رابطة تنظيمية عروبية، امتدت جغرافياً من موريتانيا إلى العراق وشبه الجزيرة العربية، ومن سوريا إلى اليمن، وكذلك في دول المهجر بالأمريكتين وأوروبا.
ورغم أن الصبغة التنظيمية السياسية قد زالت، وتقوَضت منذ أمد طويل.. لظروف عديدة – ليس هذا مجال التفصيل فيها – وأصبحت تاريخاً.. كُتبت فيه وعنه كتب؛ أبرزها – حتى الآن – الكتاب الذي ألّفه المفكر الراحل عبدالغفار شكر، إلا أن ذلك لم يفسد وشائج الأخوة، وأواصر الود، وعمق الوعي بما كان يستبد بالدول الوطنية التي انتمينا إلى جنسياتها، من عوامل تفتت وتفكك.. كانت كامنة كالجمر المتقد تحت طبقات الرماد، تنتظر من ينفخ فيها لتتأجج ويعلو لهبها!
وفي سوريا، كان جنين الجمر الطائفي قد تكوَّن.. مع انحراف حزب البعث عن خطه الوطني القومي العلماني، وانجرافه نحو الاعتماد على العصبية الجهوية والطائفية، وعلى الاستبداد السياسي، وعلى الإفساد والفساد، وتقديم الفرد القائد وأسرته.. وجهته وبطانته على الوطن ومكوناته، وليتحول التنوع والتعدد الجهوي والمذهبي والديني والفكري والسياسي.. من مصدر قوة للكل الوطني الجامع، إلى مصدر ضعف وتهالك وإفناء لذلك الكل؛ ليتأكد القانون التاريخي، الذي فحواه أنه إذا حدث وتعرَّض المركب الحضاري والثقافي للارتداد إلى عناصر تكوينه الأولية.. فإنه يفقد وظيفته، ويتحول الوطن من جسد حي تؤدي أعضاؤه وظائفها الحيوية، ويشتبك متفاعلاً مع محيطه؛ إلى جثمان يظل مجالاً لعوامل التحلل حتى التلاشي.
ورغم أن القراءة السياسية – المتسمة بقدر من المنهجية – لا تعرف تفاؤلاً ولا تشاؤماً، ولا تعرف استخدام أفعل التفضيل.. عند الاقتراب من الظواهر الاجتماعية والسياسية، فإنني أستأذن في الاعتراف بتشاؤم وفزع على حاضر سوريا ومستقبلها المرئي، لأن ما نراه ونتابعه الآن.. هو اكتمال عوامل التحلل التي بدأت قبل عقود (كما أسلفت)، واستحالة أن تحل عناصر التفتت والتفكيك محل الكل الوطني، لأن اندماجها في دولة وطنية ومواطنية.. لم يكن عملية ميكانيكية ولا حسابية، وإنما كان انصهاراً تاريخياً عبر مئات السنين، إن لم يكن عشرات القرون. والمثل الذي أسوقه دائماً هو إذا تصادف وأصابنا العطش، وطلبنا ماء، وجاء أحدهم ليعطينا ذرات أكسجين وذرات هيدروجين، وقال: ابتلعوهم وارتووا. فإننا سنموت عطشاً.. رغم أن ذرة الأكسجين وذرتي الهيدروجين هي مكونات الماء.
وعليه، فإن الاعتقاد – أو الظن – بأنه يكفي أن تجلس طائفة مذهبية مع طائفة عرقية، أو إثنية مع طائفة دينية ومع أخرى جهوية أو طبقية.. ليلتئم شمل الوطن، ويستعيد مكنونه الحضاري والثقافي، ويستدعي نضالاته واستجاباته للتحديات.. منذ التحدي الأول مع الطبيعة.. عبر مراحل التطور التاريخي البشري، وصولاً لتحديات العدوان الخارجي والاستعمار والاحتلال، والبحث عن أواصر تجمعه مع محيطه المباشر ودوائره المتداخلة، هو اعتقاد أو ظن في غير محله.
وعندئذ يبرز السؤال عن: ماذا البديل إذن؟ والإجابة – ببساطة – هي أن يتم خلع كل العباءات الانتمائية الفرعية.. خلعاً لا ينفصل فيه الشكل والمظهر عن المضمون والجوهر، وأن ينتهي إلى غير رجعة.. اعتبار الطائفة أو القبيلة والعشيرة، أو المذهب أو المستوى الاجتماعي أو الانتماء التديني.. خطوطًا حمراء عند أصحابها، لا يجوز الاقتراب منها. وإذا اقترب أحد منها، فليذهب الوطن والكل الوطني إلى الجحيم.
ولا أريد أن أستطرد في مزيد من التشاؤم.. بذكر دور القوى الخارجية؛ وخاصة الدولة الصهيونية والولايات المتحدة وإيران، وبدرجة أقل تركيا وروسيا.. في تكريس تفتت سوريا، والإجهاز على جوهرها الحضاري والثقافي، وتفكيك دولتها الوطنية لتصبح دويلات، أو على أحسن حال كونفيدرالية أو فيدرالية، بعدما كانت دولة وطنية موحدة.. تقوم على تراب وطني معلوم الحدود والوحدات الإدارية «المحافظات»، وفيها مؤسسات تحكم بالدستور والقانون، وفيها شعب انصهرت سبيكته، وظلت مظاهر تنوعه مصدراً لريادته وقوته.
ثم إنني أكرر، أن علينا – في المحروسة – أن تظل عيوننا مفتوحة في رؤوسنا.. لنعرف خلاصنا – كما يقول المثل الشعبي «عينك في راسك تعرف خلاصك» – وأرى أن الغيب أو الصدفة أو غيرهما، لا يكفان عن دق نواقيس اليقظة والحذر، لندرك النعمة التي أسبغها القدر علينا.. ببقاء دولتنا الوطنية بتراب مستقل، ومؤسسات ودستور وقوانين، وشعب منصهر السبيكة، وهي لم تكن ولن تكون نعمة هبطت من ثنايا الغيب.. بقدر ما هي نتاج لوعي مجتمعي عميق، بأن كل حراك سياسي أو اجتماعي جائز.. في المدى والسخونة، ولكنه إذا هدد الدولة الوطنية، ووحدة الوجدان الحضاري والثقافي.. متنوع المصادر والمظاهر، فإنه يدخل في نطاق التحريم القطعي الحتمي.
ومهما كانت المعاناة، التي لا ينكر القائمون على رأس مؤسسات الدولة وجودها؛ فإن أي سعى لاستغلالها لضرب الوطن في مقتل.. هو سعي يجب أن يُقتل ويُستأصل.
نقلاً عن «الأهرام»