محمد أبو الغار
الفن رسالة ساحرة، تنطلق لتؤثر في الملايين فتسعدهم وتحسن حياتهم وترفع معنوياتهم وتدفعهم للأمام. الفن حين يقدم صورة واقعية لقرية صغيرة وفقيرة.. في صعيد مصر، فهو يقدم فنّاً رائعاً. أن ترى فتيات في عمر الزهور.. يغردن ويغنين ويرقصن، ويحببن الحياة ويقررن مستقبلهن وحياتهن، ويغيرن مجتمعهن، فأنت تشاهد أملاً لكل مصر وشبابها، يتحقق على الشاشة الكبيرة، عاكساً لواقع حقيقي فيه الفقر وقسوة الحياة. وفيه أيضاً البسمة على الوجوه التي ترفض القديم وتنظر إلى المستقبل وتبحث عن الحب والعمل في مجتمع قبطي صعيدي نعرف جميعاً أنه مجتمع تقليدي منغلق ومتشدد تجاه المرأة. حينئذٍ يكون الأمر مفرحاً ومبهجاً ورائعاً.
شاهدت الفيلم الأسبوع الماضي، وهو يحكي قصة قرية في صعيد مصر – مثلها كمثل كل قرى الصعيد – بيوتها متشابهة، وشوارعها وحاراتها وناسها متشابهون. هذه القرية منذ سنوات اتخذ أهلها منهجاً مختلفاً في الحياة. قررت مجموعة من بنات القرية أن يقمن بنشاط مجتمعي، وتكوين فرقة من الفتيات للغناء.. في شوارع القرية، ومنها خرجن إلى القرى المجاورة ومعهن الطلبة، وأقمن مسرحاً بسيطاً في الشارع.. خارج أحد بيوتهن، وأطلقن على فرقتهن اسم «بانوراما بارشا»، وترشحت إحدى الفتيات في الانتخابات البرلمانية الأولى، التي تلت ثورة 25 يناير؛ متحدية كافة التقاليد.. كفتاة شابة، صعيدية، وقبطية، تنافس الكبار والعائلات والسياسيين والإخوان المسلمين، فكسرت حصاراً مهماً، وأوصلت رسالة تقول: نحن هنا.
عرف المخرجان ندى رياض وأيمن الأمير بما يحدث في هذه القرية، وكمخرجين من الشباب عندهما أفكار حديثة، سافرا إلى القرية، وعاشا مع أهلها أربع سنوات، فكانا يقضيان أياماً في البرشا وأياماً في القاهرة، وبمرور الوقت اعتبرهما أهل القرية جزءاً منهم. دخلا البيوت وعاشا مع أهلها وجلسا على المقاهي وعرفا المشكلات وشاهدا التحديات، ووثق فيهما أهل القرية، وأحبوهما وتفاعلوا معهما. حتى إنهما قاما بالتصوير داخل البيوت وخارجها. ومع الكبار والشباب صوَّرا الأفراح في الشارع والكنيسة، وبعد مرور عامين أصبح لدى المخرجين مادة سينمائية ضخمة.. من المعايشة والحديث مع البنات ومع أهل البرشا، وهنا فقط تم البدء في وضع تصور للفيلم وأحداثه. الفيلم لم يُكتب له سيناريو ولا حوار ولا بروفات لتصوير المشاهد. الفيلم صوَّر المشاعر الحقيقية للبنات وللناس، وحكى الجميع عن مشاكلهم الخاصة والعامة، حيث تحدث فيه الجميع عن قصص الحب وأفكارهم بالنسبة للحب والزواج، ورأيهم في التقاليد، وتحدث الأب لابنته بصراحة يحذرها من الشاب الذي تربطها به علاقة حب وخطبة، والذي طلب منها أن تترك فرقة بانوراما برشا قبل الزواج، وقال لها الأب: «إحنا ما عندناش طلاق، فلازم تفكري كويس، وتقرري انتي عايزة إيه». وهذا حديث غير متوقع من أب صعيدي تقليدي، وواضح أن ليبرالية القرية أثرت على الآباء والأبناء والأمهات.
وهكذا رأينا المشاهد التي لم يحفظ كلامها الممثلون ولا تم الترتيب لما سوف يقولون، وإنما صورت الواقع، فهناك مشاهد البقال الصغير الذي تتعامل معه العائلة كلها، ولديه كمية محدودة من البضاعة، وشاهدنا البيوت البسيطة من الخارج والداخل. تم تسجيل تفاصيل أحد الأفراح وعلاقة كاهن الكنيسة بالأهالي وماذا يقول القسيس للعروسين أثناء تسجيل أوراق الزواج. صوَّر المخرجان رأي العامة من الناس، فالبعض مستاء من البنات اللاتي يقولون إنهن «خرجن على حل شعرهن»، والبعض سعيد وفرحان بهن، والصغار يريدون المشاركة في الغناء والرقص واللحاق بالبنات.
وبالرغم من أن الفيلم تسجيلي، فإن به لمحة روائية ودرامية. الفيلم فيه حب وخطبة وزواج وولادة، وفسخ خطبة، وبناء مسرح، وهدم مسرح، وتشجيع من بعض الأهالي، واستهزاء من البعض الآخر، والكل يتعلم، وفتاة تترك القرية لدراسة المسرح. الجانب الروائي في الفيلم يمثل أحداثاً حقيقية على أرض الواقع.
لك أن تتخيل أن يعيش المخرجان في القرية أربع سنوات، ويصورا 400 ساعة من الأحداث على الطبيعة، وفي النهاية.. مطلوب أن يُختصر الفيلم إلى 90 دقيقة فقط، فى المونتاج، وهو عمل شاق وشديد الاحترافية، لأن المخرج الشاطر يتقبل حذف أجزاء كبيرة من عمله، في سبيل إنتاج فيلم متماسك، ووقته معقول.
الفيلم عن قرية مصرية.. شكلها ومظهرها مماثل لآلاف القرى في الصعيد، ولكن هناك مجموعة من البشر، قررت أن تقوم بتغيير نوع الحياة، وجعلها أكثر جمالاً ومتعة. تغيرت طريقة الحياة وروح القرية، وإن لم تتغير حتى الآن أحوالهم الاقتصادية، ولكنها دفعتهم إلى التعليم الذي بمرور الوقت سوف يغير حياتهم.
شاهدنا في الفيلم بطلاته: ماجدة مسعود، وهايدي سامح، ومونيكا يوسف، ومارينا سمير، ومريم نصار، وليديا هارون، وقائدتهن يوسينا سمير.
هؤلاء الفتيات أدين أدواراً.. هي حياتهن الطبيعية.. ببساطة وأيضاً ببراعة، وكن طبيعيات للغاية، فليست هناك مظاهر مفتعلة.
هناك أمهات.. ظهرن في لقطات بسيطة في الفيلم، ولكن هذه اللقطات تبين حجم التمدن والتفكير العصري واضحاً، مما أعطى الحرية للبنات لتكتمل الشخصية، ويتحررن من تقاليد قيدت حريتهن، وأثرت على حياتهن، وحبستهن في خندق ضيق.
هذا الفيلم حقق نجاحاً كبيراً.. في مهرجان كان، حيث حصل على جائزة النقاد للأفلام التسجيلية، (جائزة العين الذهبية)، بحضور البطلات. وعُرض الفيلم في مهرجان الجونة، وحصل على جائزة الأفلام التسجيلية، وأيضاً بحضور البطلات. وعُرض في برلين في قاعة كبيرة، وليس بها مقعد خالٍ، وقام المهندس كميل حليم – رجل الأعمال المصري في شيكاجو – بتقديم الفيلم لمهرجان شيكاجو، ودعا الفتيات والمخرجين على نفقته الشخصية.. إلى الحضور والإقامة في شيكاجو، وعُرض الفيلم بنجاح كبير. وهذا الأسبوع، عُرض في مهرجان أمستردام، والآن الفيلم موجود في عدد من السينمات في أنحاء مصر، وهذه فرصة جيدة للجمهور لمشاهدته.
تحية لأهل قرية البرشا.. الذين قاموا بتحرير البنات، وإعطائهن الفرصة لإبراز مواهبهن، والحياة بطريقة أفضل.
وتحية لبنات البرشا.. الجميلات الرائعات، اللاتي كانت شجاعتهن، وكفاءتهن، وقدرتهن على التنظيم.. رائعة.
تحية خاصة للمخرجين ندى رياض وأيمن الأمير، اللذين بذلا مجهوداً كبيراً.. خلال أربع سنوات من الإقامة والمعاشرة لأهل القرية، حتى أصبحا جزءاً منها، واستطاعا أن يبدعا فيلماً رائعاً، سوف يظل جزءاً مهماً من تاريخ السينما المصرية، ويعطينا مثالاً حياً عن كيف يغير الفن الحياة إلى أحسن وأرقى وأجمل.
قوم يا مصري.. مصر دايماً بتناديك.
نقلاً عن «المصري اليوم«