Times of Egypt

ذهبت السكرة وجاءت الفكرة!.. نهاية الحلم اللذيذ! 

Mohamed Bosila
محمد عبدالشفيع عيسى 

 
محمد عبدالشفيع عيسى

نعم.. ويا له من حلم – أو كأنه حلم – ذلك الذي كان! ولم يكن ذاك حلماً قصيراً، أو «غفوة»، ولكنه حلم ممتد.. في الزمان والمكان حقاً.  

فأما الزمان فهو نصف قرن تقريباً؛ من عام 1945 (نهاية الحرب العالمية الثانية).. حتى عام 1990 (نهاية الاتحاد السوفيتي ومعه نظام «القطبية الثنائية»).  

وأما المكان، فهو على اتساع رقعة المعمورة كلها.  

وفي المنتصف.. من الحقبة الزمانية المذكورة بالضبط تقريباً – أي منذ 1974، ولما بعدها بسنوات قلائل – حدثت النقطة الفاصلة، أو وقعت الواقعة.  

… ففي مايو 1974، انعقدت (الدورة الاستثنائية السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة)، التي أصدرت في نهاية دور انعقادها.. ما سُمّي بـ «بالإعلان وبرنامج العمل حول إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد».  

كان ذلك حدثاً جللاً، واكبته أحداث جسام أيضاً.. على الصعيد السياسي الإقليمي والعالمي؛ خاصة، حين ألقى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية.. خطاباً مدوياً في إحدى الجلسات للدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة. وبعدها، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً تاريخياً.. باعتبار «الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية  Zionism  as a Form of Racism  ، ذلك القرار الذي اعتبرته الجمعية العامة (ذاتها) – بعد ذلك بسنوات – كأنه لم يكن!!. 

إذن، فقد كانت هناك دفعة عالمية قوية.. اقتصادياً وسياسياً، ومن شأنها توليد روح تفاؤلية عميقة.. حول مسير ومصير النظام العالمي؛ ورُحْنا في حالة تشبه «سكرة الخمر».. التي أبدع في وصفها الشاعر العربي من العصر العباسي الأول في القرن الثاني للهجرة (أبو نواس الحسن ابن هاني) وخاصة في قصيدته العصماء (دع عنك لوْمي…): صهباء لا تنزل الأحزان ساحتها.. لو مسّها حجَرٌ مسّته سرّاءُ. 

… ظننا أن التاريخ الإنساني قد (انصلح) حاله.. إلى غير رجعة؛ وأن العدالة الدولية، والاستقرار العالمي، على الأبواب. لكن التاريخ اتخذ مساراً لولبياً، فعاد إلى سيرته الأولى؛ سلسلة متصلة الحلقات – جيئة وذهاباً – من العدالة إلى انعدام العدالة، ومن الاستقرار إلى «عدم الاستقرار العميق«. 

هكذا وقعت الواقعة مرة أخرى، فإذا بأحد رُكني النظام العالمي – ثنائي القطبية – يسقط على الأرض.. مطاحاً به؛ في تطور عاصف مدوّ. وذلك هو «الاتحاد السوفيتي»، مقابل القطب الآخر العتيد.. «الولايات المتحدة الأمريكية«. 

وإذ ذاك، تربع القطب الأمريكي (على العرش)، وأطلق بعض الخبراء على ذلك.. اسم «القوة العظمى الوحيدة«The Only Super Power ، وانتهى إذن «الحلم».. الذي كان لذيذاً حقّا (1945-1990)، مثله كمثل «الحلم الأمريكي».. الذي تغنّى به الكثيرون سنين. 

•  •  • 

في يوم الثالث من ديسمبر الماضي (2024)، كان لنا في مؤسستنا العلمية العتيدة – معهد التخطيط القومي – لقاء.. ضمن ما يسمى (المتابعات العلمية)، وكان موضوعه التقرير الصادر مؤخراً عن عدد من المنظمات الدولية – ضمن أسرة «الأمم المتحدة» – بعنوان (تمويل التنمية المستدامة). وكان لي حظ المشاركة.. بكلمة تعقيبية قصيرة، حول الروح «التشاؤمية» العميقة، التي بدا عليها ذلك التقرير.. وهو يناقش أوضاع التمويل الدولي الراهن، وما يتصل به من قضايا الاقتصاد الدولي المعقدة؛ وفي مقدمتها تفاقم الديون العالمية، وانخفاض معدلات الاستثمار، وتزايد البطالة، وفجوة التمويل التنموي، وتعاظم الهوّة بين العالمين: المتقدم اقتصاديا، والنامي. 

وقد أدليت بذلكم التعقيب الموجز.. انطلاقاً مما أسميته «نهاية الحلم» 1945-1990، وإن شئت فقل، انكشاف «الكابوس» (1990-…)، وكان ذلك امتداداً لمقالنا الأخير المنشور في (الشروق)، بعنوان (الحرب قبل السلام.. والعنف قبل العمران). 

في محاولة لاستعادة القراءة لما أرتأينا.. ذكرت أن «نهاية الحلم» و«ابتداء الكابوس»، تقتضي اتباع آليات جديدة، أو استراتيجيات وتكتيكات.. مختلفة عما كان عليه الحال في مرحلة «ما بعد الحرب العالمية الثانية«. 

وإنما تنطلق تلك الآليات والاستراتيجيات والتكتيكات (الجديدة-القديمة)؛ مما هو قريب من الروح التي سادت في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، وفق ما سبقت إليه الإشارة. 

وذكرت في هذا المقام.. ثلاث نقاط؛ أولاها: ضرورة العودة (النسبية) لما كنا نطلق عليه «الاعتماد على النفس«Self-Reliance ، لإن شحة الموارد الدولية المتاحة للتمويل التنموي، واتساع فجوة الموارد بين العالمين المكوّنيْن لعالمنا، يفرض ضرورة العودة إلى نقطة البداية، وهي: الاعتماد على الذات، في ظروف جديدة مختلفة عما كان عليه الحال. 

أما النقطة الثانية، فهي تلك المتصلة بما سبق اتصالاً وثيقاً، وهي «الاعتماد الجماعي على النفس Collective self-Reliance». وبتعبير آخر.. إعادة تنشيط حركة التعاون والتكامل الإقليمي؛ كما هي الحال مع تكاملية الإطار العربي. ومن أمثلة ذلك: تجمع بريكس BRICS الذي بدأت نواته بالدول الخمسة: البرازيل، وروسيا والهند، والصين  وجنوب إفريقيا، ثم توسعت لتنضم – أو تنتسب – أخريات.. في الأعوام القليلة الأخيرة، ومنها جمهورية مصر العربية. وهناك أيضاً تجمع «ميركسور» في أمريكا اللاتينية، و«آسيانASEAN ».. في جنوب شرق آسيا، ومناطق التجارة الحرة الإفريقية الثلاثة – ذات المكونات العتيدة – وأهمها: كوميسا في شرق ووسط إفريقيا، و«إيكواس» في غرب إفريقيا. وأما جامعة الدول العربية.. فهي ذلك الكيان الجامع للأقطار العربية، بشجرتها الباسقة، وفروعها الغزيرة، مثل «منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى»، والتي – برغم نشاطها الجمّ.. على الصعيد (النظري) – لم تنتج عملياً ما يرقى إلى الطموح العربي.. أو شطر من الطموح. وفشلت إلى حد بعيد.. لأسباب اجتماعية وسياسية إقليمية ودولية معقدة، مما يستدعي إعادة النظر الجذرية. 

بالنسبة للنقطة الثالثة فيما قدمناه من عرض موجز.. في ذلكم اللقاء الثقافي، فإنها تتصل بما سبق لنا التعرض له على صفحات (الشروق)، تحت عناوين من قبيل (من المشروعات الكبيرة إلى الصناعات الصغيرة) و(الصغير جميل(. 

•  •  • 

خلاصة ما أردنا الخلوص إليه، أن الموارد الخارجية.. التي تأتي إلى مصر على سبيل المثال، تتجه في المقام الأول إلى مشروعات البنية الأساسية والسياحة والإسكان الفاخر. وأما نحن فنريد إعطاء أولوية خاصة أيضاً إلى توجيه الموارد المحلية الخالصة.. إلى المشروعات الصناعية – أو التصنيعية manufacturing – سواء منها الصغرى، والصغيرة، أم المتوسطة. وهكذا يمكن أن تتولد الفكرة النافعة.. بدلاً من (السكرة) الزائلة. وكل ذلك، بدلاً من الركض وراء ذيول الحلم الذابل، الذي غدا كابوساً.. أو ما يشبه الكابوس. فهل نفعلها حقاً؟ 

* أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية. 

  

نقلاً عن «الشروق« 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.