عمار علي حسن
وصل اسم د. محمد أبوالغار إلى سمعي أول مرة.. مقروناً ببراعته في طب النساء والتوليد، وريادته – في هذا المجال – لكونه أول من أدخل تكنولوجيا أطفال الأنابيب إلى مصر، وكان بعض أهل الطب يتحدثون عن أبحاثه المهمة.. في علم الأجنة والتناسل البشري، وعلم الوراثة، وعلاج العقم.. التي ينشرها في دوريات عالمية مرموقة. كما يتحدثون عن حدبه على زائري عيادته، واهتمامه بهم.. في الإنصات إلى شكواهم، وبذل كل علم وجهد مستطاع.. في سبيل علاجهم.
وكنا نقرأ – بين حين وآخر – عن اهتمامه بالفن التشكيلي، والثقافة والأدب.. عبر أخبار تنشر عن صالون ثقافي يعقده في بيته، ويستضيف البارزين من الكتاب والمفكرين.
طوال مسيرته العلمية، أسس أبوالغار «جمعية الشرق الأوسط للخصوبة» – وهي أول وأكبر مؤسسة مختصة بمجال الإنجاب في الإقليم كله – وصار عضواً في هيئات تحرير عدد من الدوريات العلمية.. المتخصصة في الخصوبة والإنجاب. وحاضر في دورات تدريبية في أمريكا وأوروبا، ونشر نحو مائتي بحث في تخصصه، وحصل على العضوية الشرفية للجمعية الأوروبية للتناسل البشري وعلم الأجنة.
وبعد سنوات طويلة من الاهتمام بالشأن الوطني – عبر إبداء الرأي الفردي في الأحداث الجارية، دون الانضمام إلى تنظيم سياسي – رأيناه ينزل إلى المجال العام؛ عبر مسارين. الأول: جعله من السياسيين البارزين في زماننا. والثاني: أضافه إلى عالم الباحثين والكتاب في الدراسات الإنسانية. وهو في الحالين لم يخالف الفنان.. الذي يسكنه، والمثقف.. حين يدرك أنه لا يمكن أن يكتفي بمراقبة الفئران.. التي تهرب من بيت يحترق، بل عليه أن يحمل الماء والتراب.. ليطفئ الحريق مع القادرين من بني قومه.
ساهم أبوالغار – أستاذ طب النساء والتوليد بجامعة القاهرة – في تكوين حركة «9 مارس»،.. التِي نادت باستقلال الجامعات في زمن مبارك، ثم أصبح من البارزين في «الجمعية الوطنية للتغيير» التِي رأسها د. محمد البرادعي. وحين قامت ثورة يناير، كان في قلبها، ورأس بعدها «الحزب الديمقراطي الاجتماعي»، ثم اختير ضمن مائة شخصية.. لعضوية الجمعية التأسيسية لكتابة دستور 2012، لكنه انسحب.. اعتراضاً على طريقة عمل اللجنة، ليعود بعدها عضواً في جمعية الخمسين.. التِي كتبت دستور 2014.
طوال مدة انشغاله بالعمل العام، عرف عن الرجل.. إيمانه بالحرية الفردية والجماعية. وكفاحه في سبيل أن تكون الديمقراطية طريقة الحكم، ونداؤه الدائم للمصريين.. أن يقدحوا أذهانهم، ويطلقوا خيالهم، ويشمروا عن سواعدهم.. في سبيل تغيير الأوضاع العامة إلى الأفضل؛ لذا نراه يحرص على أنه ينهي مقالاته الصحفية.. بعبارة «قم يا مصري».
كما عرفت عنه النزاهة والصراحة، فلا يبخل بتفكير أو جهد.. في سبيل الانتصار للحقيقة، ونراه – أيضاً – حريصاً على استقلال رأيه، الذي ينبع من ضميره.
وهو – في كل الأحوال – يقارب السياسة بعقل العالم، ووجدان الفنان؛ رافضاً كل ما يشوبها من تلاعب ومخاتلة ودعايات كاذبة. كما نراه مدافعاً جسوراً عن البحث العلمي، مطالباً بالاهتمام به.. من خلال زيادة ميزانيته، وتوفير البيئة التعليمية التِي تقود إلى نجاعته، والاهتمام بالنابغين في مختلف مجالاته. كما رأيناه يدافع عن أطباء مصر في محنتهم الراهنة.
ورغم تقدم سنه – إذ يبلغ الآن الخامسة والثمانين – فإن نشاطه العلمي والصحي والثقافي.. لم يفتر؛ فهو يواصل العمل في عيادته ومركزه الطبي.. بالهمة نفسها التِي يطالع بها كتباً متنوعة، ويكتب عنها. وقاده تحمسه للثقافة، إلى إقناع أصحاب «مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية» – الذي هو أحد أعضاء مجلس أمنائها – بفكرة سهير الإتربي.. بإطلاق جائزة في مختلف ألوان الأدب؛ فساهمت في تقديم أقلام شابة كثيرة، وعززت مسيرة أدباء وكتاب متحققين.
ولم يمنع هذا الانشغال.. الرجل – الذي فاز بجائزة النيل في العلوم والعلوم التكنولوجية المتقدمة، وقبلها الجائزة الوطنية المصرية للتفوق العلمي – من أن يواصل تأليف الكتب.. التِي يظهر فيها ميله إلى التاريخ، واختيار موضوعات وقضايا منه.. تفيدنا في فهم واقعنا المعيش، حتى أنني كلما رأيت اسمه على كتاب أو مقال، تذكرت محاضرة اللورد سنو الشهيرة حول الثقافة؛ التي وضع فيها المختصين بالعلوم البحتة.. ضمن المثقفين، رافضاً أن يقتصروا على الأدباء والفنانين والمفكرين، والمختصين بالعلوم الإنسانية.
ألَّف أبوالغار في التاريخ أربعة كتب نوعية؛ حرص فيها على الاطلاع على وثائق أصلية، سافر خلفها طويلاً، وأجرى مقابلات متعمقة أحياناً؛ أولها: «يهود مصر في القرن العشرين».. الذي تناول فيه مدى ارتباط اليهود بمصر نفسياً ودينياً وتاريخياً، وكيف تحدثوا عنها بعد هجرتهم منها. وثانيها: بعنوان: «الفيلق المصري.. جريمة اختطاف نصف مليون مصري»، تناول فيه إجبار بريطانيا – وقت احتلالها مصر – فلاحيها على ترحيل قسري مع الجيش البريطاني.. إلى فلسطين وسوريا ولبنان والعراق، وغرب تركيا وجزر اليونان، وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا؛ ليقوموا بأعمال شاقة مثل؛ بناء خط سكة حديد، وتحميل وتفريغ السفن.. ففرغت منهم الأرض، وحدثت مجاعات في أماكن عدة من مصر، فانتفض المصريون على سوء معاملتهم.. عام 1918، وكانوا الوقود الأول لثورة 1919.
وفي كتابه «أمريكا وثورة 1919»، يتناول تعلق قادة الثورة.. بمبادئ الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون.. حول استقلال الشعوب، وتوكيلهم المحامي الأمريكي الشهير جوزيف فولك.. للدفاع عن القضية في الكونجرس والصحافة الأمريكية، لكن خاب أملهم.. بسبب تدخل بريطانيا، وانضمام أمريكا إلى المعترفين بحمايتها على مصر.
أما كتابه «الوباء الذي قتل 180 ألف مصري» فيتعرض فيه لتفشي وباء الإنفلونزا الإسبانية في العالم – ومنه مصر – وكيف أهمل المؤرخون هذا؛ رغم أن جميع الوثائق الصحية الخاصة بالوباء – التِي حصل عليها أبوالغار من جامعة تكساس – تبين عكس ذلك.
وسجل أبوالغار مسيرته – في كتابه «على هامش الرحلة»، الذي تناول فيه أحداثاً ومواقف، سمعها من أبيه وجده، وعايشها بنفسه – لتبدو ليست سيرة ذاتية فحسب؛ إنما أيضاً مسيرة وطن.
وهنا يقول: «ربما كان من أهم الأسباب، التِي حفزتني لكتابة هذه الأوراق.. ندرة الكتب التِي دونها أفراد من جيلي، لم ينتموا إلى فكر أو تنظيم معين. ولم يكونوا أيضاً من رجال الثورة أو أعوانها، أو أضيروا من قوانينها أو قراراتها».
إننا أمام رجل ثري العلم والمعرفة، نبيل المقصد، وافر العطاء، حتى أحسبه من المخلصين، الذين يُشار إليهم في زماننا بالبنان.
وسيُذكر اسمه لاحقاً.. بحروف جلية في سجل الوطن.
نقلاً عن «المصري اليوم»