أحمد الجمال
من الأسرار غير المفهومة في بعض جوانب شخصية المحروسة طمس أدوار وسيرة بعض أبنائها الذين أخلصوا لها، وكانوا متميزين علمياً أو أدبياً أو سياسياً أو مهنياً، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ولعل تفسير الظاهرة يجد مكاناً في كتابات المعاصرين الآن، ومن هؤلاء الذين لم ينالوا ما يستحقون من مكانة وتقدير: الدكتور محمد صبري الشهير بالسوربوني، نسبة إلى جامعة السوربون الفرنسية الشهيرة، لأنه كان أول مصري يحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من تلك الجامعة عام 1924.
ومن يطالع مشوار حياته يجد نفسه أمام إنسان متميز في الاجتهاد لتحصيل العلم والنبوغ فيه، إذ وُلد محمد صبري عام 1894 في قرية المرج بالقليوبية، وحفظ في طفولته القرآن الكريم، ثم تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة النحاسين بحي الجمالية، والثانوي في مدرسة الخديوية الثانوية بالسيدة زينب.
وخلال دراسته الثانوية أغواه الأدب والشعر، فترك الدراسة ولازم أدباء عصره آنذاك مصطفى لطفي المنفلوطى، والشيخ حسين المرصفي، بل وتعرَّف إلى الأدباء والشعراء العرب: صدقي الزهاوي، وعبدالمحسن الكاظمي، وتقدَّم عام 1913 لامتحان البكالوريا من المنازل ونجح، وقرر السفر إلى فرنسا ليستكمل دراسته الجامعية، فأتقن الفرنسية وحصل على ليسانس الآداب في التاريخ، وبعده الدكتوراه عام 1924. ويذكر له أنه من أوائل المؤرخين الذين رأوا أن مهمة المؤرخ هي توظيف المعرفة التاريخية لخدمة قضايا الوطن، ولذلك جاءت مؤلفاته كلها متصلة بالقضية الوطنية المصرية، وترك نحو 33 مؤلفاً في تاريخ مصر الحديث وفي الأدب العربي، كانت كلها بالفرنسية التي رأى أنها لغة علمية واسعة التداول، وفيها وفرة في المصادر والمراجع، خاصة الوثائق.
ولأن اهتمامه هو أساساً بالقضية الوطنية، فكان لا بد أن يوجه كتاباته للرأي العام الأجنبي.. وفي ذلك نذكر واقعة بين سعد باشا زغلول وبينه كانت من وراء كتابته لأول كتبه، فقد كان محمد صبري يعمل سكرتيراً للوفد المصري في أثناء وجوده برئاسة سعد باشا في باريس، وتحدَّث الشاب مع الزعيم عن ضرورة إعادة كتابة التاريخ المصري الحديث بطريقة علمية أكاديمية، فقال له سعد باشا عبارة بالعامية نصها: «وهو أنا اللي ها أكتبه يا فالح.. شد حيلك أنت وابتدي»، فكان أن وضع محمد صبري كتابه الأول عن «الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التُقطت أثناء الثورة«.
ثم إنني ما زلت أتساءل حول عدم إقدام الجهات الأكاديمية والثقافية في مصر على ترجمة كل كتب السوربوني.
كما أوجه التحية للأستاذ ناجي رمضان عطية، الذي تكفّل بترجمة كتاب «نشأة الروح القومية المصرية 1863 – 1882»، وللدكتور أحمد زكريا الشلق الذي راجع الترجمة وقدَّم لها، وصدر عام 2011 عن دار الكتب والوثائق القومية التي كان يرأس مجلس إدارتها آنذاك الأستاذ الدكتور محمد صابر عرب المؤرخ ووزير الثقافة الأسبق.
وفي اعتقادي أن ما احتواه هذا الكتاب من مادة تاريخية موثقة – خاصة عن عصر الخديو إسماعيل وخلفه – تستحق وبشدة أن تُقرأ في أيامنا هذه، لأنه إذا كان التاريخ لا يعيد نفسه، وأن لكل فترة ظروفها الموضوعية الحاكمة لها، إلا أن الدروس المستقاة والمستفادة من تلك الوقائع التاريخية هي ما يبقى ويرقى إلى مستوى القوانين التاريخية الحاكمة لعلاقات البشر في المجتمع الواحد ومع مجتمعات أخرى، وأيضاً علاقتهم بالمكان والزمان ومعارف العصر.
إذا أردنا أن نعرف قصة الديون في عهد إسماعيل، وكيف جرى ذلك، وما آثاره المباشرة وغير المباشرة على الشعب المصري، فإن ما سجَّله وقام بتحليله تاريخياً الدكتور محمد صبري السوربوني في ذلك الكتاب؛ يُعد وثيقة فريدة عالية القدر والدقة الموضوعية.
ولعل اهتمام ذلك المؤرخ بالجانب الاجتماعي ضمن القضية الوطنية جعله يُفسح صفحات كتابه لرصد وتحليل الأحوال الاجتماعية، خاصة أحوال الفلاحين المصريين، الذين لم يخلُ عصر من عصور تاريخ مصر القديم والوسيط والحديث من العسف بهم، وإن كان ثمة اختلاف في الدرجة.
ويذكر المؤلف، نقلاً عن شهود العصر من الكُتاب والصحفيين، أن إسماعيل أحاط نفسه بأناس طالبوا بدفع الضرائب السنوية مقدماً، وانتزعوا الضرائب بطريقة همجية، وفي إحدى المرات شوهدت امرأة تُجر أمام نائب مدير المديرية، بعدما ضُربت على يديها ثمانين ضربة بالمقرعة، ثم طُرحت أرضاً وتلقت ثلاثين ضربة أخرى على صدرها. وكان هذا الاستجواب يتم معها بدلاً من زوجها، وردَّت المرأة بأنها لا تعرف شيئاً عن زوجها، فضُربت من جديد، وماتت هذه المرأة في السجن بعد عدة أيام، وكان ذلك كله لأن زوجها مديون للضرائب بمبلغ خمسة وأربعين قرشاً. وهذا الظلم كله كان يقع على عاتق الفلاحين، بينما ندماء إسماعيل، ومن لهم حظوة عنده، يُعفون من دفع أغلب الضرائب المستحقة عليهم، وكذلك كان الوضع بالنسبة للأوروبيين الذين كانوا يُملون القوانين على الحاكمين والمحكومين.
نقلاً عن «المصري اليوم»