عمار علي حسن
لا يمكن التعامل بجدية مع قضية «التنمية الفعالة».. بكل تجلياتها من دون النظر بعين الاعتبار إلى «الخامات المحلية»؛ بوصفها تمثل العصب الرئيسي لتلك الطريقة الاقتصادية، التي عادت تطفو على السطح من جديد.. مع عودة اليسار إلى سدة الحكم في أكثر من بلد حول العالم، وباعتبارها كذلك أحد روافد «المخزون الثقافي» الخاص لأي أمة، والذي يعطيها ميزة نسبية.. في إطار التنافس الدولي على الأسواق، والتجاذب الإنساني في عالم القيم والأفكار.. أو المُثُل والمعاني.
ومع اتجاه دول كثيرة إلى تنشيط المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والتعويل عليها في تعزيز القدرات الاقتصادية، يزداد بريق فكرة الاعتماد على «الخامات المحلية»، ولاسيما أنها تنطوي على العديد من الجوانب والسمات الإيجابية والمحفزة؛ مثل الوفرة، وامتلاك حصانة نسبية.. ضد تقلبات السوق الوطنية والعالمية، علاوة على الألفة النفسية التي تربط مختلف عناصر الإنتاج المتعاملة مع الخام المحلي، ووجود طبيعة تراكمية، تمنع الصناع من العودة إلى نقطة الصفر.. في كل مرة يتم فيها استخدام الخامات المحلية في عملية التصنيع والإنتاج.
وتظهر أهمية ذلك، في ظل ارتباطها بالأنشطة الاقتصادية المحلية الأساسية والتقليدية للمجتمع، التي تبدأ دوماً بالزراعة والرعي. كما أن تَشرُّب الخام المحلي لطبائع البيئة التي ينشأ فيها، يجعله متميزاً في مواجهة السلع المنافسة، وحاملاً لخصوصية وتفرد.. يساعدان كثيراً في تسويقه، أو تقديمه إلى الناس على أنه رمز حضاري، مثل دور نبات البردي وزهرة اللوتس في الحضارة الفرعونية، والنخيل في الحضارة العربية، والغاب والخيزران والأرز في كثير من الحضارات الآسيوية.
ومثل هذا التوجه يحتاج إلى إطار فكري.. يقوم على عدة مبادئ، أولها هو التعامل مع الخامات.. بوصفها نوعاً من «الموروث الثقافي»، الذي يستحق العناية والرعاية، ويفرض ضرورة التمسك به، والتأسيس عليه، وتطويره ليتواكب مع معطيات العصر، وليس تنحيته جانباً، أو التحرج منه، أو النظر إليه بدونية، واعتباره عبئاً على الحياة الاقتصادية الحديثة، أو التوهم أنه حجر عثر أمام التقدم.
وثانيها هو النظر إلى المجتمع المحلي.. بوصفه بداية السياسة ومنتهاها، فمنه تنطلق السياسات العامة بمختلف صنوفها، وإليه يرجع عائدها؛ في شكل سلع وخدمات وقيم وعلاقات، فالمواطن البسيط في القرى والنجوع والعزب والدساكر.. يتصرف بوصفه جزءاً من وطن كبير، وهو الدولة التي يعيش في ربوعها، وينتظر من حكومة هذه الدولة.. أن تعمل على خدمته، وتوظف علاقاتها الخارجية من أجله، لأنها تستمد منه شرعيتها الحقيقية، بعيداً عن الشرعيات المجروحة التي تقوم على النسب والعصبية والتوظيف الأيديولوجي للدين والأساطير.
أما المبدأ الثالث فهو وجود إيمان عميق بأن الخامات المحلية.. هي الأقدام التي يقف عليها أي اقتصاد وطني راغب في بناء ذاته، وطامح إلى أن يشكل رقماً في الاقتصاد العالمي، وأنها الأداة.. التي إن أحسنت أي سلطة استغلالها، تقي الدولة من براثن التبعية، وتحمي المجتمع من الاستسلام التام لمنطق السوق العولمية، بنزعتها الاستهلاكية المفرطة.
والمبدأ الرابع هو الاستفادة من أحدث التقنيات العالمية.. في التعامل مع الخامات المحلية، لكي تدخل إلى عالم الصناعة من أوسع أبوابه، بدلاً من الاكتفاء بتصدير الخامات الطبيعية إلى الخارج، لتعود إلينا في شكل سلع، ندفع لشرائها أكثر بكثير من الأثمان التي قبضناها في بيعها.
أما المبدأ الخامس فيتمثل في الحفاظ على الحرف التقليدية بشكل عام، باعتبارها جزءاً من الهوية الوطنية، والعمل في الوقت ذاته على تطويرها، بما يحميها من الضياع والاندثار.. تحت أقدام التطور الاقتصادي العالمي، الذي يزداد توحشاً بمرور الأيام.
والمبدأ السادس يرتبط باستعمال الخامات المحلية.. في تعزيز طريقة استنبات التكنولوجيا الذاتية، التي تبدأ بسيطة وخفيفة، ثم تنمو وتتعقد وتثقل، استجابة لتطور الصناعات التي تعتمد على هذه الخامات. وهذا يعني تعميقاً ذاتياً مستمراً لحركة التصنيع، بدلاً من الاستسلام لخيار استيراد التقنيات من الخارج، وتحويل رجال المال والأعمال في بلادنا.. إلى مجرد وكلاء للشركات العالمية الكبرى.
وحتى لا يكون كلامنا مجرد أقاويل نظرية.. لا تقف على قدمين، فهناك أمثلة يجب أن نضربها في هذا المقام.. كي تثبت الصورة، وترسخ الفكرة، ويتعبد الطريق إلى الهدف. ومن أجلَى الأمثلة وأنصعها.. ما فعله المهندس المصري العبقري حسن فتحي، مخترع نظرية «عمارة الفقراء» الهندسية، التي تقوم على استخدام خامات البناء المحلية فى التشييد والعمارة، مؤسِّساً تحمسه لهذه الرؤية على منطلق اقتصادي ينبني على زهد أثمان هذه الخامات.. مقارنة بمواد البناء الأخرى، وعلى منطق فلسفي يتأسس على أن الإنسان يتوق إلى أن يسكن بالقرب من أصله وهو الأرض، وبين جدران مشيدة من المواد نفسها التي خلق الله منها جسم أبينا آدم، قبل أن ينفخ فيه الروح، فيصير بشراً.
وهناك تجربتان فريدتان.. قام بهما مركز تنمية الصناعات الصغيرة في مصر؛ الأولى لتوظيف جريد النخل بدلاً من الزان.. في صناعة «الأرابيسك»، وبدلاً من الخشب الأبيض في صناعة ألواح «الكونتر»، وبدلاً من الكازوارينا في صناعة الخشب الحبيبي، فضلاً عن إنتاج قطع خشبية بمواصفات معينة، تضاهي مثيلاتها المستوردة، وإنتاج قشرة من الجريد تضاهي الصلب متانة لتُستخدم في صناعات عديدة. وهذه التجربة.. احتاجت إلى إبداع ماكينات تشغيل وتجهيز خاصة، تحسن التعامل مع الطبيعة التكوينية للجريد، والتي تختلف عن نظيرتها في الأخشاب، بشتى أنواعها. أما الثانية فتتعلق ببحث إمكانية استخدام حطب القطن.. في تصنيع الخشب الحبيبي، بدلاً من تبديد مئات آلاف الأطنان منه.. أثناء مكافحة دودة اللوز.
وفي مصر أيضاً تقوم بعض المطاعم المحلية – التي تضاهي نظيرتها العالمية فخامة وتنظيماً – بتقديم مشروبات محلية مثل «الدوم» و«الخروب» و«العرقسوس».. بدلاً من المشروبات الغازية المعروفة مثل البيبسي كولا وأخواتها. وتلقى هذه المطاعم إقبالاً متزايداً، جعلها تنافس «كنتاكي» و«ماكدونالدز» و«هارديز» وغيرها. وربما يؤدي انتشار هذا النوع من المطاعم المحلية.. إلى التوسع في الاعتماد على المشروبات الوطنية، بما قد يقود إلى تشييد مصانع لإنتاجها، وقبل هذا.. تشجيع زراعتها على نطاق واسع، ويعود بفوائد جمة على الاقتصاد الوطني.
نقلاً عن «المصري اليوم»