Times of Egypt

حضور كارل ماركس في حفل تنصيب دونالد ترامب 

Mohamed Bosila
مصطفى كامل السيد 

مصطفى كامل السيد 

لا تعجبوا من عنوان هذا المقال. بالطبع الفيلسوف الألماني – الذي مات في سنة 1883 – لم يُبعث من قبره، وبالتالي لم يُدع لحفل تنصيب دونالد ترامب.. الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة. وليس من المتوقع، أن يدعو ترامب إلى حفل تنصيبه.. فلاسفة يكرههم أو يعجب بهم. وقد علقت الصحف الأمريكية والدولية على هؤلاء الذين حضروا الحفل وجذبوا الانتباه؛ كانوا هم من أثرى أثرياء العالم.. والولايات المتحدة بطبيعة الحال، وفي مقدمتهم إيلون ماسك.. صاحب أكبر الثروات في العالم، ومنهم جيف بيزوس.. مالك سلسلة متاجر أمازون وصحيفة واشنطن بوست، ومارك زوكربيرج.. مالك فيسبوك، وغيرهم من الستة وعشرين.. من أصحاب المليارات، الذين ساهموا بدعم حملة ترامب الانتخابية.. بما لا يقل عن مليون دولار لكل منهم.  

طبعاً الرئيس الأمريكي المنتخب.. ينتمي إلى هذا النادي، فثروته الشخصية تقدر بما يتجاوز ستة مليارات من الدولارات. تصوروا ماذا كان الفيلسوف الألماني يقول. أمام هذا المشهد، لو تصورنا أنه يمكن أن يحضره. لا شك أننا كنا سنرى ابتسامته العريضة.. تحت شاربه الكث، الذي يحيط بلحيته الكثيفة. «لقد قلت لكم»، يصرّح لمن كان سيسمعه «إن أصحاب الثورة.. هم هيئة أركان الدولة الرأسمالية. سخر بعضكم من هذه المقولة.. التي اقترحتها كأحدى حالات العلاقة بين أصحاب الثروة وجهاز الدولة، يستخدم فيها أصحاب الثروة.. سيطرتهم على أدوات الإنتاج، لكي يجعلوا جهاز الدولة مجرد أداة.. لتحقيق مصالحهم، دون أن يمتلك هذا الجهاز أي استقلالية في مواجهتهم. ونبهتكم أنه – في حالات أخرى – يمكن أن يسيطر جهاز الدولة على المجتمع، كما كان شأن الحضارات النهرية في الصين والهند والشرق الأدنى. وفي حالة ثالثة، يمتلك جهاز الدولة هذا الاستقلال؛ لأن الطبقات المالكة لأدوات الإنتاج، تتعارك فيما بينها، ولا تجمعها إرادة واحدة، وهذا الوضع يعطي لجهاز الدولة حرية واسعة.. في مواجهة هذه الطبقات، كما كان الحال في فرنسا، وما شاهدته فيها في منتصف القرن التاسع عشر. وقد تصورت – كما ذهب بعض من قرأوا أعمالي – إلى أنه.. في حالة الرأسماليات المتقدمة؛ مثل الولايات المتحدة، وأمام اتساع الطبقات الرأسمالية فيها، وتعقد مسئوليات الدولة.. أن هذه الطبقات ستسمح لجهاز الدولة باستقلال نسبي.. في إطار الرأسمالية، حتى يسمح لها – من ناحية – بأن تتفرغ لكسب الثروة ومضاعفتها، ولكن حتى يقوم ببعض الإصلاحات الاجتماعية، التي تجمع الطبقات الوسطى والعاملة.. وراء الدولة، التي ستكتسب من ثم شرعيتها. أنا أبتسم، لأني لم أتصور أن يكون هذا.. هو حال الولايات المتحدة». 
هذا الحديث المتخيل.. لكارل ماركس، ليس مقدمة لمقال في الفلسفة السياسية، لكنه تعليق على ما يجب أن يكون عليه وضع جهاز الدولة، ليس في المجتمعات الرأسمالية وحدها، بل وفي كل أنحاء العالم. هل الأفضل للمواطنين.. أن يكون جهاز الدولة أداة في يد قسم من المجتمع – طبقة أو قبيلة أو مؤسسة دينية أو ميليشيا عسكرية – تديره لحسابها، أم أنه يجب أن يتمتع بالاستقلال النسبي.. في مواجهة كل هذه الانقسامات السائدة في المجتمع، ليخرج بمشروع سياسي واقتصادي واجتماعي.. يلقى القبول منها كلها، حتى وإن كانت كلها لا تستفيد منه بنفس الدرجة؟  

وحتى نضع ذلك في السياق الأمريكى، فهذا هو لب الخلاف.. بين فريق ترامب وأصحاب المليارات فيه، والحزب الديمقراطي الذي هُزم مرشحاه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. لا يشك أحد في أن الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة.. هو حزب ملتزم بالاقتصاد الرأسمالي، ويدعو إلى تعميم نموذج المشروع الخاص في كل أنحاء العالم، ويتنافس – على هذا الأساس – مع النموذج الصيني، الذي قيد في السابق.. الملكية الخاصة، بل دعا – في فترات لاحقة – إلى إلغائها تماماً.. وصولاً إلى المجتمع الشيوعي المنشود.  

ومع ذلك، فالحزب الديمقراطي.. هو الذي ارتبط تاريخياً بإدخال إصلاحات اقتصادية واجتماعية، عندما عانت الرأسمالية الأمريكية من أزمات عالمية خانقة، جاءت بالحزب النازي إلى السلطة في ألمانيا (في أعقاب أزمة الكساد الكبير في 1929)، وكان المخرج منها – الذي نفذه الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت – هو جرعة من تدخل الدولة.. عبر مشروعات الصفقة الجديدة The New Deal، واعترف أثناءها بنقابات العمال. وهو ما حاوله رئيس ديمقراطي آخر.. هو باراك أوباما، عندما دخلت الولايات المتحدة والدول الرأسمالية الأخرى في أوروبا وشرق آسيا.. أزمة مالية في 2008، وصلت إصلاحاته.. إلى حد فرض سيطرة الدولة – مؤقتاً – على شركات السيارات الكبرى، التي انخفضت مبيعاتها كثيراً، فزادت مديونيتها أثناء تلك الأزمة، وسعى أيضاً لتوفير الرعاية الصحية لعشرات الملايين من الأمريكيين.. الذين لا يقدرون عليها.  

وبفضل إصلاحات أوباما.. خرج الاقتصاد الأمريكي من عثرته، واستأنف النمو، ولقيت سياساته قبولاً واسعاً من كل طبقات المجتمع، وصار من أكثر الرؤساء الأمريكيين شعبية. وهو نفس ما حاوله الرئيس جو بايدن.. باتباع سياسة صناعية، تستهدف تدعيم مكانة الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيات المتقدمة، وتحسين قدرتها التنافسية.. في مواجهة الاقتصاد الصيني، الذي سيحل مكان الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم. كان هذا التصور لدور الدولة، هو جوهر البرنامج الاقتصادي لكامالا هاريس.. المرشحة الديمقراطية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وقد حذر بايدن – في خطاب وداعه – من أن نجاح مرشحي الحزب الجمهوري، سوف ينقل الولايات المتحدة إلى حكم أوليجاركية، أي حكم أصحاب الثروات. 

خطورة حكم أصحاب الثروات 

ابتسامة ماركس الساخرة (المتخيلة).. لها ما يبررها؛ فهو عندما تحدّث عن الدولة.. باعتبارها هيئة أركان الطبقة الرأسمالية، كان يتصور أن الدولة ستكون القائد.. الذي يدرك مصالح الطبقة ككل، وأهم مصلحة لها؛ هي استمرار النظام الرأسمالي. الرأسماليون مشغولون بمصالحهم الفردية، وهم متنافسون فيما بينهم، بين من يجد مكانه في السوق الداخلي.. ويخشى المنافسة الخارجية، وبين من يكسب أسواقاً واسعة خارج بلاده.. ولا يهتم بتقييد المنافسة داخل بلده. بين صغار المنتجين وكبار المنتجين. فعندما تتمتع الدولة بالاستقلال النسبي، تصبح هي القادرة على امتلاك رؤية واسعة – بما يتوافر لها من خبرة ومعرفة وإحاطة.. بأوضاع المجتمع ككل، مثلما تحيط هيئة أركان الجيش بميدان المعركة.. على رحابته، بينما لا يرى قادة الكتائب سوى تلك المساحة الصغيرة.. التي تواجه وحداتهم – وهذا هو ما تفعله الدولة في الرأسماليات المتقدمة.. في غرب ووسط أوروبا وفي شرق آسيا.  

أما عندما يتولى الرأسماليون إدارة الدولة، فسوف يوجهونها لخدمة مصالحهم.. بصرف النظر عن مصالح طبقات المجتمع الأخرى. سوف يتولى إيلون ماسك – أثرى أثرياء العالم – وزارة جديدة في حكومة ترامب.. هي وزارة الكفاءة الحكومية. وأول خططه، هي تخفيض حجم الإدارة الحكومية؛ مما سيترتب عليه فقدان مئات الآلاف من الموظفين فى الحكومة الاتحادية لمصادر دخلهم.  

وطبعاً.. خفض الضرائب هو عنصر أساسي في برنامج ترامب، ويفيد أصحاب الثروات، ولكن يترتب عليه خفض إيرادات الحكومة، وزيادة مديونيتها.. التي بلغت حداً غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، كما يقلل من قدرتها على الإنفاق على الخدمات الاجتماعية.. التي تهم الطبقات العاملة والوسطى؛ وفي مقدمة البرامج الاجتماعية – التي ستعاني من هذا الخفض – برنامج الرعاية الصحية.. الذي بدأه الرئيس الأسبق باراك أوباما، ويتطلع ترامب إلى إلغائه. كما ستقلل الحكومة إنفاقها على التعليم والبحث العلمي، وهو ما حدث أثناء ولاية ترامب السابقة. ومن المعروف أن غالبية الطلاب الأمريكيين.. يعتمدون على القروض التي تقدمها الحكومة لاستكمال تعليمهم الجامعي. ومن شأن خفض إنفاق الحكومة على التعليم، عجز الطلاب من الطبقة الوسطى عن إكمال تعليمهم الجامعي، أو اللجوء إلى مؤسسات التعليم الجامعي ذات المكانة الأدنى، ويفضل ترامب ترك الإنفاق على البحث العلمي للشركات الكبرى، وإخضاع تمويل الجامعات لاعتبارات سياسية.. ووفق أهواء المتبرعين، الذين هدد بعضهم بوقف تمويل الجامعات؛ التي لا تقيد حرية التعبير للطلاب والأساتذة.. الذين ينتقدون إسرائيل. وإذا كان رفع التعريفات الجمركية على الواردات الأرخص.. من دول أخرى، سيعطي ميزة للصناعات الأمريكية غير القادرة على المنافسة، فمن شأن ذلك أن يرفع أثمان تلك الواردات، بل والمنتجات الأمريكية المحمية.. بالنسبة للمستهلك الأمريكي. 

الاستقلال النسبي لجهاز الدولة كقضية عامة 

لا يعني الاستقلال النسبي لجهاز الدولة.. أن أصحاب الثروات لن يمارسوا نفوذاً على هذا الجهاز، أو أن جهاز الدولة سيكون معادياً لهم. ففي ظل النظام الرأسمالي، يملك أصحاب الثروات نفوذاً هائلاً.. ليس فقط من خلال ثرواتهم، ولكن من خلال صلاتهم الاستراتيجية بكبار الموظفين، فهم تشاركوا معهم في نفس التعليم، وربما تخرجوا من نفس الجامعات، ويقطنون نفس الأحياء، ويترددون على نفس النوادي. ولهم جماعات المصالح الناطقة باسمهم، ويمولون الأحزاب والمرشحين في الانتخابات، وهم يملكون القدرة على توجيه أفكار المواطنين والمواطنات.. من خلال سيطرتهم على أجهزة الإعلام.  

إيلون ماسك.. يملك منصة X – وهي Twitter سابقاً – وبيزوس.. يملك صحيفة واشنطن بوست، ومارك زوكربيرج.. يملك فيس بوك، وكلها طوّعت محتواها.. بحيث يتلاءم مع الإدارة الجديدة، لكن يُفترض أن المجتمع – كل مجتمع – يجب أن يتيح لكل الطبقات والفئات.. نفس الحريات في التعبير والتنظيم والمشاركة السياسية، وأن يكون هناك فصل – في مزاولة المنصب الحكومي – بين الأداء أثناء تولي المنصب.. والمصلحة الخاصة؛ وذلك في ظل الشفافية والمساءلة.  

عندما تتوافر هذه الشروط، يمكن لجهاز الدولة أن يبلور توجهات.. تخدم مصالح كل الطبقات؛ بحسب مدى وجودها داخل مؤسساته التشريعية والتنفيذية والمحلية، وهنا يمكن أن يكتسب شرعيته. 

 نقلاً عن «الشروق» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *