محمد أبو الغار..
هذا كتاب ضخم.. للكاتبة البريطانية مارينا وارنر، صادر عن دار نشر «نيويورك ريفيو». الحكاية.. سيرة ذاتية لأب إنجليزي من أسرة أرستقراطية، كان ضابطاً في جيش بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، تزوج من فتاة إيطالية بسيطة من جنوب إيطاليا، عاش في مصر أثناء الحرب، ثم انتقل إلى القاهرة بعد الحرب.. ليفتح فرعاً للمكتبة البريطانية «سميث»، التي دُمرت أثناء حريق القاهرة.. الذي شهدته الكاتبة وهي طفلة. أنقل لكم ما كتبته عن حريق القاهرة.
في يوم 26 يناير 1952، اشتعلت النيران في كل الممتلكات البريطانية والفرنسية، ومعظم ممتلكات الأجانب. بنك باركليز، فندق شبرد العريق، محل شيكوريل، وستة من المحلات الكبرى، ومقهى جروبي الفاخر، وجميع السينمات والملاهي الليلية والمسارح والمطاعم. وانطلق المتظاهرون إلى شارع الهرم؛ حيث حرقوا ملهى الأوبرج وثلاثة ملاهٍ أخرى، وجميع بارات القاهرة. ومجموع ما تم حرقه 750 مبنى. وفي آخر النهار، كان حريق مكتبة «سميث» التي تملكها شركة إنجليزية، ويديرها «إزموند» (والد الكاتبة).
قُتل 47 شخصاً فيذلك اليوم؛ بعضهم بطرق رهيبة، منهم 9 احترقوا في نادي «ترف» الإنجليزي. وفقد وديع سعيد – والد إدوارد سعيد – محله الفاخر للأدوات المكتبية وآلات الكتابة والطباعة. وتقول د. نادية جندي – جارة إدوارد سعيد – إن الأب قال بعد الحريق مباشرة: «هيا نشمر عن سواعدنا، ونبدأ العمل من جديد».
وبالرغم من أن والد الكاتبة (إزموند).. كتب أن المسيحيين في مصر كانوا مرعوبين، إلا أن الكاتبة أشارت إلى أنه.. لم يحدث أي اعتداء على الكنائس، أو منازل أو ممتلكات الأقباط. فقد كان الحريق مبنياً على الهوية.. وليس الدين، وقد احترقت بعض محلات اليونانيين والأرمن والإيطاليين واليهود. أما مكتبة والدها، فقد أشار إليها صبي صغير.. حين كانوا يحرقون محلاً لبيع الخمور. ولم يعبر المتظاهرون كوبري قصر النيل إلى الزمالك.
وقالت إن الحريق لم يكن بغرض السرقة. كان غضباً من بريطانيا، ومن سوء معاملتها للمصريين. وتشير الكاتبة إلى ثلاثية نجيب محفوظ وغضب المصريين من جنود الاحتلال. وتقول إن منطقة القناة كانت مشتعلة.. بين الشعب والقوات البريطانية، وفي14 يناير 1952،كتب «إزموند» أنه قُتل في الإسماعيلية..4 جنود بريطانيين، و42 جندياً مصرياً، وجُرح أعداد كثيرة، وكان الرد المبالغ فيه من جيش بريطانيا.. مماثلاً لما حدث في دنشواي قبل نصف قرن، وأدى إلى ثورة غضب عند المصريين وعنف شديد.
وفي خطاب أُرسل يوم 25 يناير من «إزموند».. والد الكاتبة، يصف ما حدث في الإسماعيلية؛ عن مقتل بلوكات النظام من البوليس المصري، مما أدى إلى غضب شديد، وتوقع مشاكل في القاهرة. وفي خطاب آخر يوم 31 يناير، كتب عن الخسائر في المكتبة، وقال إن نقطة بدء الحريق قد تكون حركة السلام الشيوعية، وحزب مصر الفتاة، أو الإخوان المسلمين. «لقد كسر المتظاهرون القفل، وأخرجوا الكتب، وأشعلوا فيها النار».
في عام 2009، زارت الكاتبة القاهرة.. بمساعدة رضوى عاشور، ورأت مكان مكتبة أبيها. سألت الكاتبة أمها – قبل وفاتها – عن هذا اليوم، فقالت: إنها حين رأت الدخان فوق المدينة، احتضنت بناتها، وأحضرت مجوهراتها، وقررت أن تخيطها داخل أحد الملابس، وفكرت أن تأخذ البنتين إلى نادي الجزيرة.. عبر الشارع، ولكنها خافت أن يهجم المتظاهرون على نادي الجزيرة.
وبعد مرور كل هذه السنوات، ليس معروفاً بدقة.. كيف بدأ الحريق ومن أحضر البنزين. وثبت أن الذين قاموا بالحريق.. هم طبقة الأفندية لابسي الطربوش. وهناك مؤرخون يتهمون المخابرات البريطانية.. بأنها وراء الأحداث، حتى يخاف الملك فاروق، ويعطي بريطانيا كل التنازلات. وفي خطاب من أبيها «إزموند».. إلى مجلس إدارة المكتبة في لندن، يرجو أن يتحرك الجيش البريطاني ويعيد احتلال مصر.
وبعد الحريق بستة أشهر، غادر الملك فاروق على اليخت المحروسة يوم 26 يوليو 1952.. إلى نابولي في إيطاليا، حيث عاش بين كابري وسويسرا.
وكتب «إزموند» – لوالده في لندن – أن الأمور اختلفت في مصر، وأن الأجانب والأغنياء المصريين.. بدأوا يتركون البلد إلى أوروبا، والقاهرة سوف تكون فارغة هذا الصيف. وكتب إلى أبيه السير بيلهام: «والدي العزيز، لقد تحطمت تماماً، بعد أن رأيت أن كل ما قد بنيته خلال 4 سنوات في القاهرة.. قد مُسح بأستيكة، فعلاً لقد هُزمت. وما هو المستقبل؟».
وبدأت تصل شحنات كتب.. كانت طُلبت قبل الحريق، ومازالت المكتبة الصغيرة إيزيس في الزمالك – التابعة للشركة – تعمل. وفي مارس 1952، حضر ميشيل هوريني – رئيس مجلس إدارة الشركة في لندن – لتفقد الأمور، وكان الشعور بأن القاهرة على حافة بركان، وعاش معهم في شقة الزمالك، وقرر أن يغلق المكتبة نهائياً في28 يونيو 1952. وغطى التأمين جميع خسائر المكتبة.
كان «إزموند» يريد الثأر.. مما حدث بواسطة الإمبراطورية البريطانية، ولكن عندما جاءت اللحظة، لم تنتصر بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في العدوان الثلاثي عام 1956، وخرجوا بهزيمة سياسية.
بعد العودة، بدأت الكاتبة- وهي طفلة – تتذكر الدادات والسفرجية والخدم والبواب، ولاتزال العائلة كلها.. تتذكر مشهد حرق الكتب. وفي عام 1995 نشر الكاتب «إزموند» مجموعة مقالات.. بعنوان «المكتبة المحترقة»، وتذكرت ما حدث لوالدها في مصر، وتقول إنها كانت تفكر في شباب المصريين.. الذين كانوا يتوقون للاستقلال والحرية من الاحتلال البريطاني.
وبعد ذلك، عمل في بلجيكا.. لإدارة مكتبة نفس الشركة، ثم عادوا نهائياً إلى إنجلترا عام 1959، وتوفي والدها عام 1982.
واضح أن حريق المكتبة وحريق القاهرة.. قد تركا جرحاً عميقاً في الأب، الذي قال: «لن أكون نفس الشخص مرة أخرى بعد هذا الحريق».
دُعيت الكاتبة عام 2014 لإلقاء محاضرة (إدوارد سعيد التذكارية) في الجامعة الأمريكية بميدان التحرير، وكانت الشخصية التي قدمتها.. هي تحية عبدالناصر، حفيدة جمال عبدالناصر. وقامت هدى ونادية جندي بدعوتها على العشاء، وبعد العشاء استأذنت هدى جندي من تحية عبدالناصر، بأن الطباخ العجوز يريد أن يحييها، فجاء وقبَّل يدها وقال لها: أشكر جدك أنه قام بتحرير مصر. وبدأت الكاتبة تتذكر أيام الطفولة في القاهرة، وما حدث في مصر من أهوال عبر سنوات طويلة، وآخرها ثورة 25 يناير. أيام ناصر.. كانت هناك ديكتاتورية ولكنها مدنية، وجاءت ثورة يناير.. وما حدث بعدها والفساد، وما حدث في سوريا وشمال إفريقيا. وقالت: «لقد كان حريق القاهرة.. هو بداية استعادة قناة السويس بعد 4 سنوات، والتخلص من النفوذ الأجنبي».
الكتاب يحكي عن الأجواء في أوروبا.. أثناء وبعد الحرب في العالم كله، ويلقي الضوء على نفوذ بريطانيا في مصر، وعن طبيعة الخدم الذين كانوا في خدمة الأجانب، وعن حياة الأجانب في القاهرة، والسهرات الفاخرة والحياة في نادي الجزيرة. الكتاب به كثير من الأحداث عن الحياة في مصر مع بعض النوستالجيا.
قوم يا مصري.. مصر دايماً بتناديك.
نقلاً عن «المصري اليوم»
حريق القاهرة بقلم كاتبة بريطانية

شارك هذه المقالة
اترك تعليق