نبيل عبدالفتاح
الاستهلاك المتنامي والمتطور.. كان جزءاً من تطور النظام الرأسمالي؛ من الثورة الصناعية الأولى إلى الرابعة. إلا أن أنماط الاستهلاك – المكثف نوعياً – جاءت عقب ثورة الطلاب في جامعة كاليفورنيا بيركلي، والسوربون عام 1968، وانتقل الاستهلاك ليهيمن على تفاصيل الحياة كلها، وارتبط بالاستعراضات والتمثيل في السلوك الإنساني؛ بحيث تحول كل ما هو طبيعي، إلى تمثيل محمول على الاستهلاك، وأنماط في نظام الزي، والجنس والمأكل والمشرب، ونزعة الاقتناء للأشياء؛ بما فيها العربات الخاصة للقادرين، أو من خلال نظام التقسيط، وفي شراء المنازل، والوحدات السكنية.. من خلال نظام الاقتراض من البنوك، والهوس بالموضات، والروائح العطرية… إلخ.
تحول الاستهلاك إلى ثقافة حياة، وتشييء وتسليع للحياة الإنسانية والسلوك الاجتماعي، وأثر ذلك على التفاوتات الاجتماعية.. بين الطبقات الميسورة والثرية جداً، وبين بعض شرائح الطبقة الوسطى-الوسطى، وباتت المصارف تلعب أدواراً بارزة في حياة المواطنين في الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية، وامتدت آثارها إلى بقية دول العالم.
أثرت الثورة الاستهلاكية في دول الإمبراطورية الماركسية السوفيتية، وباتت بعض معالم الاستهلاك تمثل جزءاً من رغبات الأجيال الشابة، التي كانت بعض رغباتها تدور حول اقتناء بنطلونات الجينز، وغيرها من علامات الاستهلاك في الدول الغربية. ويمكن القول إن ضبط الحريات العامة.. أدى إلى تمدد النزعة الاستهلاكية، وإدمان أنظمة الشراب الكحولية، دلالة على حالة الاغتراب السوسيو-نفسي في هذه البلدان، ويمكن القول إنها ساهمت نسبياً – ضمن عوامل أخرى – في تداعي ووهن وانهيار هذه البلدان.. بعد سقوط حائط برلين.
مع الثورة الصناعية الثالثة وتطوراتها التقنية المهمة، باتت أنماط الاستهلاك الفردي والجماعي مفرطة، على نحو تحولت معه إلى سمت شامل للرأسماليات الكبرى – في أوروبا وأمريكا الشمالية – وباتت ثقافة الاستهلاك، هي سمت الثقافات في هذه المجتمعات، ومن ثم أثرت أيضاً على السياسة، والأحزاب السياسية، وبرامجها، ومن ثم على الدول القومية.
لم تعد الأمة في المفهوم الغربي.. هي ذاتها في أثناء تشكلها التاريخي؛ قبل الدولة، أو معها – أياً كان الرأي الفلسفي والتاريخي في هذا المضمار – مع اللغة، والعرق… إلخ، وتوحيد هذه المجتمعات تحت الدولة القومية. في هذا الإطار، لم تعد مفاهيم الحرية فلسفياً.. هي ذات المفاهيم مع عصر التنوير والحداثة – بل وما بعدها – وأيضاً على الدولة والقوانين والسلطة، ونظم الرقابات في هذه الدول.
لم تعد الحريات العامة السياسية والفكرية والفردية.. هي مركز علاقة الفرد/المواطن بالدولة والنظام السياسي الديمقراطي والتمثيلي، وإنما هيمنة الحرية الاستهلاكية، والقدرة على إشباع الدوافع والرغبات والملذات في السلوك الاجتماعي.
باتت حرية الاستهلاك المعمم، هي أحد أبرز المعايير الاجتماعية الفردية والجماعية.. في التأثير على السلوك الانتخابي، في المنافسات بين الأحزاب وبرامجها، من حيث قدرتها على تلبية الاحتياجات الاستهلاكية للمواطنين/الناخبين.
باتت ثقافة الاستهلاك المفرط.. مهيمنة على الثقافات الغربية، وامتدت إلى العالم، بما فيه غالب الجنوب ودوله المتخلفة ما بعد الاستعمار، والأخطر أن هذه النظم الاستبدادية والتسلطية، في ظل «رأسماليات الدولة الوطنية» التابعة للمركز الإمبريالي الغربي. وكان الاستهلاك، وتلبيته للاحتياجات الأساسية للطبقات المعسورة والوسطى الصغيرة، وبعض الوسطى-الوسطى، هو شغلها الشاغل لضمان استقرارها، وهيمنة التسلطية والفساد على المجتمع، وقطاعاته الاجتماعية العريضة.
أثرت الثورة الاستهلاكية المفرطة على الدولة وسلطاتها، وأجهزتها البيروقراطية والإدارية.. من دولة الرفاهة، إلى دولة الاستهلاك المكثف. وساهم في ذلك التطور الكبير في سياسات الشركات الكبرى والعملاقة.. ذات الطابع الكوني، وأشكال تمددها القانوني والاقتصادي متعدد الجنسيات، ومعها المصارف الكبرى في عالمنا، ومعها أيضاً أشكال معقدة من العلاقات القانونية والاقتصادية.. مع غالب دول العالم، وأيضاً في التأثير على المؤسسات النقدية الدولية، كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي ونظائرهما، وسياساتهم النقدية تجاه دول الجنوب الفقيرة والمتوسطة، بل والمتقدمة في بعض الأحيان.
لا شك في أن حرية الاستهلاك باتت مركزية، وأثرت على حريات الرأي والتعبير، من خلال الإعلام التقليدي والتلفازات، وسياسات التحرير في الصحف والمجلات – التي باتت تعكس مصالح الممولين في شركاتها – بل في إشاعة مفهوم الشهرة في السياسة، والسينما، والمسرح، وتسليع جسد المرأة.
ومع شركات العلاقات العامة، باتت ثورة الاتصالات التقليدية.. جزءاً من نسيج حرية استهلاك الأخبار والمعلومات التي تبث، أو من خلال الصورة، والأفلام السينمائية، والتوثيقية، وما وراء هذه الأنماط الاستهلاكية.. من مصالح القوى السيطرة على الإعلام، والثقافة، والاقتصاد. باتت التفاوتات، والتمايزات، والإقصاءات داخل النظام الاجتماعي، في تزايد.. من خلال القدرة على ممارسة حرية الاستهلاك.
لا شك في أن الأنظمة الإعلامية وسياساتها، والإنتاج في السينما والفنون، كانت تعكس – في بعض أبعادها – مصالح من وراءها من طبقة كبار الرأسماليين وشركاتهم الكونية، وتركز غالبها على الإنتاج الاستهلاكي المكثف.. من خلال دراسات السوق، والرغبات الفردية، على نحو أثر على الشركات الكبرى في اليابان، وكوريا الجنوبية، وامتد ذلك إلى الصين، وسنغافورة، وماليزيا، والهند، وإنتاج السلع والخدمات بأثمان منخفضة، ومتدرجة.. لجميع الأسواق.. ونمط الاستهلاك في الدول الفقيرة، والمتوسطة، ودول شمال العالم.
مع الثورة الصناعية الرابعة – ووسائل التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي التوليدي – باتت الحرية الرقمية واسعة النطاق.. أحد مصادر الترويج لحرية الاستهلاك، والأخطر أصبحت الجماهير الرقمية الغفيرة، تحت الرقابة والسيطرة الناعمة.. من خلال البيانات الضخمة Big Data، التي تبيعها الشركات الرقمية الكونية الضخمة للشركات الكونية وغيرها، والدول، لتوجيه سياساتها الإنتاجية الاستهلاكية.. من خلال تحليل التوجهات والرغبات، والأخطر التأثير على السلوك الاستهلاكي الرقمي للجماهير الرقمية الغفيرة.
حرية الاستهلاك باتت تحت السيطرة، والرقابات، وإعادة التوجيه؛ بما فيها السلع السياسية الرقمية الاستهلاكية، المتمثلة فى المعارضات، والآراء السياسية، وتحول الفضاء الرقمي.. إلى نمط من الاستهلاك الديني النقلي التقليدي، من خلال بعض الجماعات السلفية والجهادية وغيرها، التي اتخذت من وسائل التواصل الاجتماعي أدوات بث الآراء المرسلة، والتأويلات الوضعية حول الأديان والمذاهب لتحويل حرية التدين والاعتقاد.. إلى سلعة رقمية في الأسواق الرقمية والفعلية.
تبدو حرية الاستهلاك تهيمن على عديد الحريات العامة والفردية، وفي ذات الوقت تخضع لما سبق أن سميناه.. الرقابات المتعددة والمتبادلة للواقع الفعلي والرقمي. الشركات الرقمية الضخمة تراقب الجميع، لصالح حرية الاستهلاك المفرط في تفاصيل الحياة الفعلية والرقمية، ومعها الشركات الكونية الضخمة. باتت الدول وسلطاتها تراقب الحياة الافتراضية.. من خلال أنظمة للرقابات الرقمية.
ومن ثم، لم تعد مفاهيم الحريات العامة والفردية.. كما كانت في ظل الدولة القومية، وتطوراتها، وتحولها إلى ما بعدها. وإنما أدى التضخم، والتفاوتات الاجتماعية.. إلى توظيف وسائل التواصل الاجتماعي، في محاولة الضغط على الدولة الاستهلاكية، وسلطاتها، من خلال التعبئة الرقمية، والحشد للتظاهر في الواقع الفعلي. الأخطر أن الاستهلاك.. بات هو المعنى في الحياة، وعدم القدرة على تلبيته يبدو فقدان المعنى في الحياة الاستهلاكية المفرطة، ومن ثم بات عالمنا هو عالم الأشياء، حيث البشر تحولوا إلى أشياء تُستهلك، ويعاد تشكيل رغباتها وسلوكياتها، وفق سلطات رقابية تقف مهيمنة على توجهات الثورة الرقمية.
نقلاً عن «الأهرام»