Times of Egypt

تجربة قصيرة ممتعة

Mohamed Bosila
نيفين مسعد

نيفين مسعد..


طالما بقي الإنسان على قيد الحياة، فهناك دائماً احتمال أن يخوض تجارب جديدة. وآخر تجربة عشتها على مدار نحو أربعة شهور، كانت تجربة المشاركة في لجنة تحكيم أعمال الأدباء الشبان.. المقدّمة للفوز ببعض جوائز ساويرس الثقافية.
من غير الدقيق، أن أقارن متعة هذه التجربة بمتع أخرى.. لا تشبهها كمتعة الأمومة مثلاً، فالبرتقال لا يشبه التفاح.. إلا في الاستدارة. لكن يمكنني أن أقارن متعة المشاركة.. في لجنة تحكيم أعمال الأدباء الشبان، بمتعة المشاركة في العديد من لجان مناقشة رسائل الماچستير والدكتوراه، وتحكيم العديد من بحوث الترقية الأكاديمية.. للدرجات العلمية المختلفة.
لا أظلم التحكيم الأكاديمي – بكل صوره – بالقول إنه تحكيم منزوع المتعة؛ ففيه متعة التعلّم من الأفكار الجديدة، ومن الأجيال الجديدة. وفيه متعة المساهمة في نجاح الآخرين، والنجاح شعور مُعدٍ.. مثله مثل كل المشاعر الإنسانية. لكن على المستوى الشخصي، أعتبر أن تجربة المشاركة في تحكيم أعمال الأدباء الشبان.. أمتع وأجمل تجربة دخلتها منذ سنوات طويلة، وكأن الورق في الأعمال الأدبية، له ملمسه ورائحته، ووقع كلماته.. بشكل يختلف عن ورق الأبحاث والكتب والرسائل العلمية؛ مع أن هذا ورق، وذاك ورق.
أو كأن ورق الأدب.. له روحه التي تسري فيه، وتسري منه، وتلوِّن المشهد والأشياء. أو كأن معاناة الإبداع في الأدب والفن عموماً.. غير كل معاناة. ولذلك فسوف أظل مدينة للطبيب والمفكر والإنسان الكبير الدكتور محمد أبو الغار، عضو مجلس أمناء مؤسسة ساويرس، الذي رشحني للانضمام للجنة تحكيم أدب الشبان. وما زلت أذكر ذلك اليوم من أيام شهر يوليو من العام الماضي، حين نقل لي دكتور أبوالغار هذا الخبر السعيد، فقلت لنفسي: ما زالت للحياة مفاجآتها الحلوة.

  • • •

في الاجتماع الأول للجنة التي ضمت أربعة من كبار الكُتاب والنقاد هم الأساتذة: إبراهيم داوود وأحمد سعيد المصري وطارق إمام ومحمد شمروخ، أبلغتنا دينامو مؤسسة ساويرس ورئيسة قطاع العلاقات العامة والاتصال فيها.. الأستاذة وسام رجب، أن الأعمال المطلوب تحكيمها تبلغ 112 رواية و58 مجموعة قصصية. نزل هذا العدد المهول على رأسي كالصاعقة، لكن لم أفتح فمي.. بعد أن لاحظت أن باقي الأعضاء بدوا.. وكأنهم معتادون على أرقام مماثلة، وفسّرتُ هذه الدهشة – التي تملَّكتني وحدي – بأنها ترجع لكوني ضيفة على عالَم الأدب. وعندما أتاني مندوب مؤسسة ساويرس حاملاً صندوقاً كرتونياً ضخماً جداً بين ذراعيه، تذكرتُ – كعادتي في استعادة المشاهد الدرامية – مشهد زُنفُل التمرجي.. في فيلم «آه من حواء» وهو يدخل حاملاً كل أنواع الخضر والطيور، لتطبخها أميرة المتمردة أو لبنى عبد العزيز، فما أن رأته أميرة حتى تلعثمَت قائلة: أنا حاطبخ كل ده؟ وبالمثل كنت على وشك أن أسأل مندوب مؤسسة ساويرس: أنا حاقرأ كل ده؟

  • • •
    أمسكتُ أول رواية والثانية والثالثة، وأعجبتني اللعبة؛ فكل رواية تنقلني إلى عالمها، وتصادقني على أشخاصها، وتعرِّفني على طريقتها الخاصة في الحكي ومفرداتها اللغوية وألاعيبها السردية، وبالتدريج.. بارحني الشعور بأني أشبه زُنفُل، وأَلِفت منظري.. وأنا محاطة بمئات من صفحات أدب الشبان.
    هنا يجب أن أعترف.. أن الأعمال التي تقدم بها الشبان لنَيل الجائزة، كانت على درجة عالية جداً من الجودة، حتى أننا بعد أن اتفقنا – في لجنة التحكيم – على الأعمال التي تدخل في القائمة القصيرة- توقفنا أمام تحديد الأعمال المرشَّحَة للفوز، فالاختيار كان صعباً، والفروق كانت بسيطة. فازت رواية «الصبي» لسيد عمر بالجائزة الأولى، وهي رواية – كما قيل – مكتوبة بالمازورة.. في إشارة إلى شدة إحكامها، رغم بساطة حكايتها.
    صبي في الثالثة عشرة من عمره، ينتقل من الصحراء إلى المدينة.. ليثأر لمقتل والده، ويتولّى محام – على قدّ الحال، تحت التدريب – مهمة الدفاع عنه. وفي أثناء رحلة المحامي ما بين مسرح الجريمة.. ومسقط رأس الصبي؛ حيث القبائل والعربان، يكتشف عوالم وعلاقات وقوانين.. جديدة عليه، ولا يعود كما كان قبل بدء رحلته. أحداث الرواية تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، وتلك مناسبة للقول إن التاريخ كان له فعل المغناطيس.. في الأعمال المحكّمة، بمعنى أنه جذب عدداً كبيراً من الأدباء الشبان، لينطلق منه ويوظفه.
    وهكذا أيضاً انطلقت رواية «فريدة وسيدي المظلوم» لهبة أحمد حسب.. من مظلومية الملكة فريدة – زوجة الملك فاروق- لتنسج عالماً بعضه حقيقي، ومعظمه مختلق؛ فيه السوق والمقام والدلاّلة، والطهور والتحطيب، والأمثال والشهور القبطية. قلت لمؤلفة هذه الرواية «إنتِ عفريتة»، وبالفعل.. فلقد بدت لي مدهشة؛ بقدرتها على الغوص في تفاصيل مصر القديمة.. وهي الشابة الثلاثينية، وبتمكنّها من إنطاق كل شخصية بمفرداتها؛ من اللهجة الصعيدية، ومن اللغة الفرنسية.
    لماذا يجذب التاريخ الأدباء الشبان؟ لا توجد إجابة واحدة لهذا السؤال، قد نجد الإجابة في غنى الماضي، أو في الفرار من الحاضر، أو في الإسقاط السياسي. وقد تكون هناك إجابات لا نعرفها. لكن المؤكد أن التاريخ ليس جاذباً للشبان وحدهم، وأن الكتابة التاريخية صارت ظاهرة.
  • • •

وفي القصص القصيرة، فازت مجموعة «احتمالات لا نهائية للغياب»..لآية مصطفى، وهي عمل شديد التميّز.. محوره التجليات المختلفة لفكرة الغياب، وهي فكرة جديدة ممتعة، وكنا قد اتفقنا – في لجنة التحكيم – على أن تكون جِدّة الفكرة.. أو التناول الجديد لفكرة شائعة، من معايير التقييم. وفي هذه المجموعة تتعامل الكاتبة مع أشكال مختلفة من الغياب، وغياب النساء بالتحديد.. لأنه وحده الذي يثير الفضول، ولأن غياب المرأة كالشرف.. عارُ لا يُغتفَر،تقول الكاتبة. وهكذا تعددت غيابات بطلات المجموعة، فهناك التي ذهبَت تبحث عن زوجها في الجبل.. فغابت معه، وهناك التي غابت في عربة الترحيلات، وراحت من وراء الشباك تتفقّد معالم المدينة، وهناك التي غيّبتها أسطورة النهر العجيبة.. إلخ.
وفازت بالجائزة الثانية مجموعة «يجذب المعادن ويحب الكلاب» لمحمد البرمي، والاسم كما هو واضح غريب وطريف، وهو لواحدة من قصص المجموعة الخمسة عشر، وتحكي عن شاب يتعايش جسمه مع المعادن.. من أول الرصاص، وحتى الشرائح والمسامير وحشو الأسنان، وجميعها نفذ إلى داخله.. في ظروف مختلفة. والبطل أيضاً شاب.. استعاض عن تكرار تجارب الحب الفاشلة، بمصادقة الحيوانات.. في تجربة ناجحة، وفرها له «ويلي» الكلب الجولدن. ظاهرة العناوين الغريبة أيضاً.. تميّز أعمال الأدباء الشبان، فهذه هي مرحلة الانطلاق، وكسر القوالب، وتغيير المألوف. وأذكر – من بين الأعمالالتي فحصَتها اللجنة – مجموعة طريفة بعنوان «السمّانة التي أضاعت مستقبل حمادة» لماجد سنَارة، لكنها لم تفز في هذه الدورة، لأن المنافسة كانت شديدة، والجودة كانت عالية.

  • • •

كانت تجربة لا تُنسى، خرجتُ منها بحواديت.. لا أول لها ولا آخر، واكتسَبتُ صداقات أعضاء لجنة التحكيم، ووسام «اللهلوبة».. كأننا نعرف بعضنا البعض من زمان، واكتشَفتُ أنني..«ييجي منّي» في هذا العالم البديع؛عالم الأدب. فلقد انسجمت اختياراتي.. مع اختيارات الأدباء المتخصصين بدرجة كبيرة. أما الكلمة الأخيرة، فهي عن الفكر الذي يكمن وراء تنظيم مسابقة أفضل كتابة.. في المجالات المختلفة، ومنها أدب الشبان. هذا الفكر يؤمن بأن التغيير، لا يأتي إلا عن طريق ثلاثية: التعليم والثقافة والفن. وبالتالي فأن يوجد اختلاف حول آل ساويرس.. فهذا وارد، لأنه لا يوجد إجماع في هذه الدنيا على شيء. لكن الموضوعية تقتضي القول.. إن أفراد عائلة ساويرس يستثمرون في مجال الفكر والإبداع، وهذا مجال يندر فيه الاستثمار.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *