Times of Egypt

تأملات في أحداث أمستردام 

Mohamed Bosila
د. أحمد يوسف أحمد  

د. أحمد يوسف أحمد 

شهدت أمستردام ليلة الجمعة الماضية.. اشتباكات وأعمال شغب، عقب انتهاء مباراة في كرة القدم بين فريقي أياكس الهولندي ومكابي الإسرائيلي، ووفقاً لروايات مؤكدة – ومثبتة بعديد من شرائط الفيديو وتقارير إعلامية هولندية وإسرائيلية – فقد بدأت الأحداث بإقدام المشجعين الإسرائيليين.. على إنزال العلم الفلسطيني من أحد المباني وتمزيقه، وهو ما استفز سائقي سيارات الأجرة من أصول عربية، ناهيك عن مقاطع مصورة أظهرت ترديد المشجعين شعارات معادية للعرب وفلسطين، وعبارات تفتخر بتدمير مدارس غزة وقتل أطفالها، وأدى هذا السلوك إلى اشتباكات بين الجماهير من أصول عربية.. والمشجعين الإسرائيليين، تم فيها إحراق العلم الإسرائيلي، وإصابة 10 إسرائيليين، وفقدان الاتصال باثنين آخرين.  

وقد تبدو هذه الأحداث للبعض معتادة وعابرة، ولكن دلالاتها عميقة، أتخير منها ثلاثاً تتعلق بالتطرف الإسرائيلي والانحياز الغربي ومستقبل الصراع. أما التطرف.. فهو لا يحتاج إثباتاً منذ نشأة إسرائيل، غير أن الحالة الراهنة لهذا التطرف بحاجة إلى إمعان نظر، إذ تُعْمِل الحكومة الإسرائيلية الحالية – منذ أكثر من سنة – القتل والتدمير في غزة والضفة، وحالياً في لبنان، بدعوى اجتثاث المقاومة، بينما تشير كل المؤشرات إلى أن النية تمتد لتصفية الشعب الفلسطيني، وكل من يعارض المشروع الصهيوني.. قدر المستطاع، بحيث يمكن فرض الرؤية الإسرائيلية على فلسطين، بل وخارجها ولو بعد حين، كما أوضح السيد عمرو موسى في تصريحاته الأخيرة.  

ويتم هذا السلوك الإجرامي.. في ظل صمت رسمي دولي شبه تام، وحتى عندما يُكَسَر جدار الصمت، فإن التعليقات على الجرائم الإسرائيلية.. تدور حول عبارات القلق، وتمني التزام إسرائيل ببعض الضوابط، دون أدنى محاولة لترجمة هذا التمني على أرض الواقع، كذلك فإن الجرائم الإسرائيلية تتم تحت سمع وبصر مؤسسات العدالة الدولية الكسيحة.. التي تنظر منذ سنة في دعوى الإبادة الجماعية المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وطلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.. إصدار أمر باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه دون أن تُحرك ساكناً، مع أن الأمر لم يستغرق منهما سوى أسابيع قليلة.. لإصدار أمر لروسيا بوقف إطلاق النار، واعتقال الرئيس الروسي. رغم البون الشاسع بين الحالة الروسية في أوكرانيا، والحالة الإسرائيلية في غزة.  

ويستند التطرف الإسرائيلي إلى قاعدة اجتماعية، أوصلت الائتلاف الحالي لحكم إسرائيل، وهو ائتلاف ينضح بكل مظاهر التعصب العنصري.. كما اتضح في تصريحات رسمية وغير رسمية ومواد إعلامية تنطق بعقلية الإبادة الجماعية المستندة – وهو الأخطر- لدعاوى دينية. ويجب أن يكون واضحاً أن المعارضة تتفق مع هذا الائتلاف في الأهداف، وإن اختلفت في التفاصيل، ولا يعني هذا غياب أي عناصر عاقلة في إسرائيل، لكن وزنها أخذ في التراجع عبر الزمن، وهي بالتأكيد غير قادرة على إحداث أي تغيير يُعْتَد به في السياسة الخارجية الإسرائيلية، ومن هنا تأتي الدلالة الخطيرة لأحداث أمستردام، فهذا جمهور أتى لتشجيع فريقه خارج أرضه، لكنه عبَّر عن أقصى صور الغرور والتطرف السياسي والعنصري، فرفض قبل بداية المباراة الوقوف دقيقة صمت حداداً على ضحايا فيضانات إسبانيا.. رداً على اعتراف إسبانيا بفلسطين، واعتراضها على العمليات العسكرية الإسرائيلية فيها، ومطالبتها بعدم بيع السلاح لإسرائيل. وبعد المباراة.. بدر منه ما سبقت الإشارة إليه من تمزيق لعلم فلسطين، وزهو بجرائم قتل الأطفال، وهدم المدارس في غزة، ناهيك عن ترديد الشعارات المعادية للعرب، وهو ما يؤكد طابع التطرف العام الذي يسود المجتمع الإسرائيلي.  

وأما الانحياز الغربى فهو معتاد؛ فكما أن إيران تُلام عندما تقصف إسرائيل، بينما لم يلم إسرائيل أحد عندما قصفت مبنى تابعاً للقنصلية الإيرانية في دمشق، وقتلت 16 إيرانياً فيه.. بينهم قيادة في الحرس الثوري، أو عندما اغتالت إسماعيل هنية في طهران، وكما أن صوتاً غربياً مسؤولاً واحداً.. لم يرتفع لإدانة قتل قرابة الـ 50 ألف فلسطيني وإصابة ضعفهم، وتكرار التجربة في لبنان، فإنه سرعان ما انطلقت تهم العداء للسامية للمشاركين في الأحداث، وتعالت صيحات الإدانة من المسؤولين الغربيين، وأولهم الهولنديون بطبيعة الحال، والاعتذار عن خذلان اليهود.. المساكين تماماً، كما حدث في الحرب العالمية الثانية، في تأكيد جديد لفداحة ازدواجية المعايير في عالم ما زال الصوت الأعلى فيه للقوة دون الحق.  

وأخيراً، وبالنسبة لدلالة هذه الأحداث على مستقبل الصراع، فقد أتت في توقيت بدأ فيه بعض الانهزاميين، وخصوم المقاومة.. يروجون لهزيمتها، وحلول شرق نيتانياهو الأوسط الجديد.. محل الوضع الراهن.. الذي ينطوي على قوى تقاوم السيطرة والاستعلاء، ومحاولات الهيمنة الإسرائيلية. ومع أن انكسار المقاومة في حركات التحرر الوطني وارد مرحلياً، لتنهض مجدداً ولو بعد حين، وتُكمل مسيرتها نحو التحرير. وبغضِّ النظر عن أن هذه الجولة لم تُحْسم بعد.. فإن مغزى أحداث أمستردام، أن قوى المقاومة ليست في فلسطين وجبهات إسنادها العربية والإقليمية وحدها، وإنما ثمة غضب مكتوم لدى العرب في كل أماكن وجودهم، وهذا الغضب قابل للانفجار في أي لحظة، وقادر على التأثير في مجريات الأحداث.  

ومن المهم للغاية، أن هناك مؤشرات ثابتة على أن الغضب ليس مقصوراً على ذوي الأصول العربية، وإنما امتد الاستياء لمواطنين أوروبيين.. داخل هولندا وخارجها، وما المظاهرات التى وصلت إلى أقصى بقاع العالم.. كفنلندا، إلا دليل على ذلك، وهو ما يشير إلى تداعيات الوحشية الإسرائيلية على الرأي العام العالمي، وقد لا تكون لهذه التداعيات آثار قريبة أو مباشرة، لكنها ستكون بالتأكيد متغيراً مؤثراً في مستقبل الصراع، ولعل الجدل حول نصيب الناخبين الأمريكيين العرب والمسلمين في فوز ترامب.. مؤشر على ذلك، فإلى الذين ينعقون بقرب حسم الصراع لصالح إسرائيل، وقيام شرق نيتانياهو الأوسط الجديد، أقول: مهلاً، فلن تسعدوا طويلاً بأوهامكم. 

نقلاً عن «الأهرام» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.