Times of Egypt

بين «الشطح» و«النطح» 

Mohamed Bosila
وجيه وهبة 

وجيه وهبة 

«الطرق إلى الله.. بعدد أنفاس الخلائق». مقولة منسوبة إلى القطب الصوفي مؤسس الطريقة الرفاعية؛ «أحمد الرفاعي». ولعلها تُعد من المقولات المعبرة – بإيجاز بليغ – عن روح الوئام والتعايش الإيجابي، التي يجب أن تسود بين مختلف المِلَل والنِّحَل والعقائد والمذاهب. 

وحينما عرضنا (في مقال سابق بعنوان؛ الصوفية والأونطجية) لكتاب «زكي مبارك»؛ «التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق»، التبس الأمر على بعض القراء، الذين ربما قرأوا قراءة متعجلة، أو توقفوا عند العنوان، فظنوا أننا نروج لمعاداة التصوف والمتصوفة، وهذا أمر غير صحيح. 

وربما أيضاً، يرجع ظنهم هذا إلى أن المقال.. قد تزامن نشره مع الضجة التي أُثيرت عقب تعرُّض شيخ من مشايخ إحدى الطرق الصوفية المعروفة.. لتحقيق أمام النيابة العامة، وذلك إثر اتهامات له بالتحرش (عبر وسائل التواصل الاجتماعي) ببعض مريديه (من الإناث). 

وغني عن القول، أنه من البديهي أننا يجب ألا نُعمِّم الحكم الأخلاقي.. على سائر «شيوخ الطرق الصوفية»، سواء أُدين المتهم السابق الإشارة إليه أو لم يُدَن. مع الأخذ في الاعتبار، بأن هناك العديد من المآخذ الأخرى.. على تفاصيل سلوكيات بعضهم؛ من خداع وتسلط وتربح، وإفشاء للجهل.. باسم التصوف، والطريق، والكشف، والشفاعة.. إلخ. وان كنا نرى، في نهاية الأمر، أن «الشطح» الصوفي النقي، الخالي من الخزعبلات الضارة.. أفضل من «النطح» السلفي الداعشي التسلطي. 

كتاب «زكي مبارك» – كما يتضح من عنوانه – يبحث في أثر الصوفية على الأدب والأخلاق، وذلك عبر دراسة نماذج من أعمال عدد من كبار أعلامها، مثل «ابن عطاء الله السكندري» و«محيي الدين بن عربي» و«الحلاج» و«عبدالكريم الجيلاني» و«ابن الفارض».. وغيرهم الكثير. 

ولأن الكتاب هو بحث علمي – حاز به «زكي» على رسالة دكتوراه – فإنه قد حرص على ألا يتسم بحثه بانحيازات مسبقة أو أحكام عامة ضد أو مع المتصوفة، فهو يفند أعمالهم، مُشرِّحاً لها وشارحاً، يشيد بما يراه مستحقاً الإشادة، ويستنكر ما يراه مستحقاً للاستنكار. كما سنرى – على سبيل المثال – تناوله لأعمال القطب الصوفي الكبير، «الشيخ الأكبر».. «إمام العارفين»؛ «محيي الدين بن عربي». 

إمام العارفين 

بعدما وصف «زكي مبارك» «ابن عربي» بأنه فقيه يتمتع بقوة شخصية.. لها جلال في البحث والاجتهاد، ويملك ناصية العلوم الشرعية والعقلية، نراه يسمه بالغطرسة والغرور، وأن الزهو كان يقوده (ابن عربي) إلى الغفلة في بعض الأحيان. ويضرب لنا «زكي مبارك» أكثر من مثل ليبين بعض تلك الغفلة وذلك «الشطح» عند «ابن عربي»، منها تزيُّده وادعاؤه أن طفلة رضيعة لم تبلغ من العمر سنة، سألها سؤالاً فقهياً، فأجابته إجابة سديدة. 

كذلك حكايته عن جنين في بطن أمه، حينما عطست الأم، وحمدت الله، رد عليها الجنين وهو في جوفها: «يرحمكِ الله»، بصوت سمعه كل الحضور. 

ويعلق على ذلك «زكي مبارك» بقوله إنها ادعاءات «أعرض من الصحراء»، ( أي.. كما نعلق بلغة يومنا هذا على شخص بالغ في كذبه.. «وِسْعِت منك»). ومن الغريب أن نجد «زكي مبارك» بعد ذلك الذي ذكره يدعونا إلى ألّا نقف طويلاً أمام «شطحات» «ابن عربي»، فإنها مغفورة لمَن هم في مثل قامته الأدبية والدينية والصوفية!!. 

* كان «ابن عربي» من المعتقدين في مذهب «وحدة الوجود»، كما يؤكد الكثير من المعنيين، ولكن التمعن في مؤلفاته – وأشهرها «الفتوحات المكية» – كما لاحظ «زكي مبارك» – يبين عن أنه لم ينص على ذلك صراحة؛ فهو يتحفظ ويحترس كي لا يلقى مصير «الحلاج» وغيره ممن اتبعوا ذات الأفكار حول وحدة الوجود من قتل وصلب وسلخ – كما جرت العادة في تلك الآونة – ولذا عمرت كتاباته وأشعاره بالرموز والإيماءات والإشارات وكافة مفردات الغموض.. القابل لتعدد التأويل. 

* لاحظ «زكي مبارك» ولع «ابن عربي» بمقارنة الرسل بأولياء الله، وقوله بأن «الرسل لا يتفردون إلا بمزية واحدة هي التشريع، أما الاطلاع على أسرار الوجود فهو من الحظوظ التي تُتاح للأولياء». 

* للخطابات عند الصوفية – وفي القلب منهم «ابن عربي» – ثلاثة مستويات للفهم، خطاب للعوام، وخطاب للخواص، وخطاب لخواص الخواص. 

* يقول «زكي مبارك»: «لا تقولوا: أخطأ ابن عربي أو أصاب، ولكن قولوا: إنه رجل قضى العمر كله في محاورة العقل ومناجاة الروح». 

أما عن ابن عربي الأديب، فيعده «زكي مبارك» «من طبقة الكُتاب العظام، حيث يمتاز نثره الفني بأنه لا يشغلك بالألفاظ، وإنما يشغلك بالمعاني.. وهو من أملك الناس لناصية البيان». أما عن شعره، فمن رأي «زكي مبارك» أنه شعر ضعيف – باستثناء ديوان «ترجمان الأشواق»، الذي أشاد به إشادة عظيمة. 

ويختتم «زكي مبارك» هذا الفصل من كتابه عن «ابن عربي» بقوله: 

«فإن لم يكن بد في ختام هذا البحث من شطحة أدبية تُذكر بشطحات الصوفية، فإني أصرح بأن في آثار ابن عربي ما يقبل كل القبول، أو بعض القبول، إلا ديوان شعره، فإنه فيما أرى لغو وفضول: 

ومَن ذا الذي ترضى سجاياه كلها 

كفى المرء نبلاً أن تُعد معايبه 

وسلام على ابن عربي بين أعلام الفكر وأقطاب البيان». ا. ه. 

■ ونختتم نحن المقال باختيارنا بعض الأبيات من قصيدة «تناوحت الأرواح»، من ديوان «ترجمان الأشواق»، حيث يقول: 

ألا يا حمامات الأراكة والبانِ 

ترفّقْنَ لا تضعفن بالشجو أشجاني 

ترفقن لا تُظهرن بالنوح والبكا 

خفى صباباتي ومكنون أحزاني 

إلى أن يقول الأبيات الخالدة: 

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة 

فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ 

وبيت لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ 

وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ 

أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ 

ركائبه، فالحب ديني وإيماني 

نقلاً عن «المصري اليوم» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.