نبيل عبدالفتاح
تبدو التعليقات، والمنشورات، والتغريدات الومضات، والفيديوهات السريعة في غالبها.. حول انهيار مؤسسات الدولة السورية التراجيدي، تعبيراً عن العقل الرقمي، وتعبيراته المرسلة، وانطباعاته الجامحة، والأخطر.. دورانها بين حدَّي أحكام القيمة الومضة، وبين الجهل وانعدام المعرفة بالدولة والمجتمع وسوريا، وأيضاً النظام والمجتمع الطائفي اللبناني، والحرب الأهلية والمجتمع فى السودان، وليبيا!
ثمة اختلاق للأكاذيب، والمؤامرات. والأخطر أيضاً، المقالات والتحليلات السريعة، والمقابلات التلفازية المحمولة على الإثارة السياسية، واليقين المحمول على حقائق مطلقة.. ثاوية في غالب العقل الرقمي، والفعلي في غالب العالم العربي -والاستثناءات قليلة جداً، ولا يُسمع إليها- وهذا مرجعه الرغبة في الحضور الإثاري على التلفازات الفضائية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
الأمر لا يقتصر على الحالات السورية، واللبنانية، والفلسطينية، ولا على سياسة الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، ولا في تدمير أكثر من 350 موقعاً عسكرياً للجيش السوري الذي تحلل، وتفكك في سرعة فائقة، تتجاوز تسليحه، أو علاقته بالنظام، وتركيبة القوة داخله. محضُ أمر بالتسليم، والانسحاب فوراً، ثم تحلل الجيش دونما مقاومة، قادة كبار، وضباط، وصف ضباط وجنود.
أكثر من 54 عاماً من حكم الأسرة الأسدية.. بقوة القمع، ومع ذلك كان الانهيار فائق السرعة على نحو بالغ الإثارة، ومحمولاته من الأسئلة. هنا يثار السؤال: لماذا انهارت الدولة السورية، ومعها السودانية والليبية، وغيرها في عالمنا العربي؟
يشير هذا السؤال.. إلى تاريخية بناء الدولة ما بعد الكولونيالية وطابعها التسلطي، وفشل نخب ما بعد الاستقلال.. في بناء سلطاتها الثلاث؛ التشريعية، والقضائية، والتنفيذية. ومؤسساتها المدنية / والأمنية، والعسكرية، وغياب العقل السياسي والتاريخي، والمؤسسي الخلاق، الذي يستوعب حقائق الواقع الاجتماعي، والديني، والمذهبي، والعرقي، والمناطقي.. ومن ثم يؤسس لسياسات للتكامل الوطني، والجوامع السياسية والثقافية، والقيمية المشتركة، عبر ثقافة سياسية ديمقراطية تمثيلية، أو تشاركية، تؤسس لجسور، ومؤسسات سياسية.. تكرس التفاعل الخلاق بين المكونات الأساسية داخل مجتمعات انقسامية وطائفية ودينية ومذهبية؛ مثل سوريا، ولبنان. وقبلية وعرقية؛ مثل السودان، وليبيا!
ضحالة العقل السياسي التسلطي، وعدم استيعابه للتجارب التاريخية.. في بناء الدول الحديثة، وتطوراتها، وأيضاً كيفية تشكل القوميات، والدول الأمة.. في أوروبا، وأمريكا الشمالية، وأيضاً مدى تنوع وفاعلية سياسات الاندماج الداخلي، في علاقتها بالنظام السياسي وطبيعته، ومؤسساته، ودور النظام الاقتصادي وسياساته، والتنمية الاجتماعية والسياسية والثقافية… إلخ! في دعم وتطوير أنسجة التكامل الوطني.
الطابع «المحلي» – الطائفي والديني والمذهبي والعرقي الضيق – هو الذي سيطر على العقل السياسي الضحل في هذه البلدان – والاستثناءات محدودة – وهو ما أدى إلى تحيزات قادة ما بعد الاستقلال.. وإلى هذه اللحظة، إلى انتماءاتهم وخلفياتهم الدينية والمذهبية والطائفية… إلخ . سيطرت هذه الولاءات على عقل النظام السياسي الحاكم.
من سمات العقل السياسي -أو اللاسياسي–الضحل.. عدم التكامل بين سياسات التنمية الاجتماعية، وبين جميع المكونات والمناطق داخل كل بلد، والتركيز على العواصم، وبعض المدن الكبرى-المريفة؛ خاصة مناطق تركز قواعدهم الدينية والمذهبية والطائفية.. دون بقية مكونات المجتمع والدولة، على نحو فاقم من تهميش جماعات أساسية، ومناطقها، وأيضاً غياب سياسات اجتماعية.. تكرس العدالة التوزيعية، وثمار التنمية بين جميع الطبقات الاجتماعية، خاصة الطبقات المعسورة.. من العمال والفلاحين والبدو، «والبورجوازية والبروليتاريا الرثة»؛خاصة في هامش الحياة في المدن المريفة.
الأخطر.. تهميش الثقافة، وغياب سياسات ثقافية.. تكرس وتحفز التنوع، والتعدد الخلاق بين المكونات الثقافية المختلفة، والتفاعل الخلاق بين هذه المكونات الثقافية، في بناء ثقافة التعايش المشترك، والجوامع الكلية.. بين هذه المكونات المتعددة، التي تبني وتؤسس لمفهوم الوطنيات الجامع لهذه التعدديات، وتمايزاتها المختلفة.
مرجع ذلك، أن الانقلابات – في نظم طائفية وقبائلية وعرقية ومذهبية.. في بعض هذه الدول – محمولة على طبيعة تكوين هذه الجيوش، وقادتها، ومحاسيبها.. أدى لعدم الاهتمام بتحويل الجيوش إلى مؤسسات عسكرية حديثة، تكون مركزاً رئيساً لبوتقة صهر لهذه المكونات.. على مثال الجيش المصري منذ بناء الدولة الحديثة، ومؤسساتها في عهد محمد علي باشا، وإبراهيم باشا، إلى جيش جمال عبدالناصر، وما بعد. مؤسسة عسكرية وطنية، تمثل وحدة الأمة المصرية، والدولة الحديثة. هذا الاستثناء التاريخي المصري.. ارتبط بعمليات التحديث السلطوي، والنزعة شبه الحداثية في المرحلة الليبرالية، والنظام شبه الليبرالي قبل ثورة 23 يوليو 1952، ومن ثم بالقومية المصرية، وأحد تعبيراتها المؤسسية الجيش المصري.
القوة الثقافية المصرية.. كانت جزءاً من العقل الثقافي والسياسي للنخبة المصرية، ومن ثم كانت أحد أبرز محفزات تكوين القومية المصرية، ووحدة الأمة.. بقطع النظر عن التغيرات السياسية، والاحتلال البريطاني، ومن ثم أثرت على الحركة القومية الدستورية.. في كفاحها نحو الاستقلال الوطني، وسيادة الدستور الديمقراطي -دستور 1923 -من هنا كان العقل السياسي النخبوي، ومعه النخبة الثقافية المصرية، والطبقة الوسطى بعد الانتفاضة الجماهيرية العظمى 1919، يركزون على التكامل، والاندماج القومي المصري.
الاستثناء التاريخي المصري.. مختلف عن كثير من المجتمعات العربية. الجيش في مصر مؤسسة جامعة، وبوتقة للتفاعل الوطني، خاصة في ظل ما سماه أنور عبدالملك، العروة الوثقى بين الجيش والأمة.
في المجتمعات الانقسامية العربية، كان المكون الأغلبي أو الأقلي.. المسيطر، هو الذي يهيمن على الجيش، وبقية مؤسسات الدولة. ومن ثم تمركز العقل السياسي الضحل -أو اللا سياسي – على أبنية القوة (الجيش والأمن والاستخبارات)في فرض الهيمنة على جميع المكونات الرئيسية في هذه الدول ووطنياتها الهشة.. على نحو جعل من الآلة القمعية هي كل شيء، ومعها سياسات القمع والاغتيالات والاعتقالات، والاختفاء القسري.
من هنا، يمكن تفسير رهاب الخوف.. في بعض اللحظات التاريخية -في الحالة السورية – داخل قادة الجيش، وهياكله القيادية، ومعهم قواعدهم من ضباط الصف والجنود، الذي ظهر مع بوادر دخول قوات تحرير الشام بسرعة.. إلى عديد المناطق؛ وهو ما يعني أن القوة المسلحة والأمنية المتغطرسة، تحمل في أعطافها رهاب الخوف، على نحو يؤدي إلى تفككها وانهيارها فائق السرعة.. خوفاً من الموت في المعارك، أو الاعتقال أو المحاكمات، على نحو ما جرى في سوريا!
لا مواجهات فعالة حدثت في سوريا.. لمواجهة تقدم قوات المعارضة الإسلاموية ومكوناتها المختلفة، وإنما انهيارات وهروب! إنها رهاب الخوف، أو التفكك السريع للقوة المحمولة على الخوف . العقل السياسي الضحل الذي يعتمد على القوة الباطشة يحمل معه «باثولوجيا» الانهيار، أياً كانت مدة وجوده في السلطة، والتحكم في جميع تفاصيل الدولة والمجتمع، وحياة المواطنين.
إنها الباثولوجيا الطائفية والمذهبية والعرقية، التيتنتج عن فشل القوة العسكرية، والأمنية.. في أن تؤسس للتكامل الوطني العابر للمكونات الأساسية لمجتمعاتها، ومن ثم تحمل معها بعضاً من شروخها، وتبدو حاملة للخوف، في ظل تغير الموازين في لحظة تاريخية ما.
الدرس السوري في الانهيار.. تاريخي بامتياز، ويحفز العقل السياسي والبحثي على دراسته في عمق.. مؤسس على المعلومات، لا الانطباعات المرسلة، والآراء المؤدلجة السطحية، وأكاذيب وسائل التواصل الاجتماعي.
نقلاً عن «الأهرام»