وجيه وهبة
«أنا أكبر من عميد وأصغر من أستاذ»، هكذا كان تعليق أحمد أمين (1886 ـ 1954).. حينما استقال من منصبه كعميد لكلية الآداب، احتجاجاً على نقل وزير المعارف لعدد من أعضاء هيئة التدريس.. دون الرجوع إليه. ترك المنصب مكتفياً بكونه أستاذاً بالكلية.
■ درس الأديب والمؤرخ الإسلامي أحمد أمين في الأزهر، ثم في مدرسة القضاء الشرعي التي عمل بالتدريس بها بعد تخرجه. ومن مآثره العديدة – فضلاً عن مؤلفاته المرجعية الشهيرة – إنشاؤه وترؤسه للجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1914، وترؤسه لها حتى وفاته. وكذلك إنشاؤه للمجلة الأدبية «الثقافة» (1939). ونحو منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، حينما كان مديراً للإدارة الثقافية بوزارة المعارف، أنشأ «الجامعة الشعبية» التي كانت النواة للثقافة الجماهيرية.. «هيئة قصور الثقافة» الآن. ولأن أحمد أمين – فضلاً عن تخصصه القانوني والشرعي – كان واسع المعرفة الأدبية والتاريخية، قرر عميد الأدب العربي طه حسين تزكيته للانتقال إلى كلية الآداب، ليُدرِّس النقد الأدبي. وقد كان.
■ لأحمد أمين كتاب من عشرة أجزاء.. بعنوان «فيض الخاطر»، يتضمن بين دفتيه المقالات التي نشرها في عدد من المجلات عبر السنين. وفي عامنا هذا، وقد مضى على رحيله نصف قرن من الزمان، نتذكره ببعض من شذرات فيض خاطره هذا. نبدؤها بما كتبه في فصل عن أستاذه وراعيه؛ المربي عاطف بركات باشا (1872؟ ـ 1924، ابن شقيقة الزعيم سعد زغلول)، أول ناظر لمدرسة القضاء الشرعي، والذي نتذكره أيضاً في مناسبة مرور مائة عام على رحيله. في هذا الفصل يقول «أمين»:
■ «من الأقوال المأثورة.. أن كل إنسان إما أن يكون أفلاطون أو أرسطو؛ يعنون بذلك أنه إن غلب عقله عواطفه كانت نزعته أرسططالية، وإن غلبت مشاعره عقله فنزعته أفلاطونية. ونستطيع قياساً على هذا أن نقول: إن كل متصدٍّ للإصلاح، وقيادة أمور الناس.. إما أن يكون عليّاً أو معاوية؛ فإن غلب عليه تحرِّيه للعدل المطلق في كل صغيرة وكبيرة، وعدم رضاه عن أي ظلم مهما كانت نتيجته، فهو أقرب إلى نزعة عليٍّ، فعنده أن الخط إما أن يكون مستقيماً أو أعوج، ولا شيء بينهما، ويحب عليٌّ السير في الخط المستقيم دائماً.. من غير نظر إلى العواقب. أما معاوية فشيء آخر، يرى أن الغاية تبرر الوسيلة، وهو يعلن عن سياسته بقوله: «إنَّا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل»، فمن سار على هذا النهج، وارتكب الظلم أحياناً.. بغية الوصول إلى نفع كبير فهو أميل إلى خطة معاوية». ويستطرد «أمين»:
■ «والسياسيون- عادة – من قبيل معاوية، ينحرفون عن الحق أحياناً.. بحجة أنهم يقصدون إلى منفعة كبرى، وينظرون إلى المسائل السياسية نظرة البائع والمشتري؛ يدفع الثمن ظناً في الربح، فهم يضحُّون بالحق أحياناً.. أملاً في تحقيق حق أكبر، وقد يخدعون بذلك أنفسهم. وقادة مصر وساستها كغيرهم من القادة، والساسة أكثرهم من هذا القبيل؛ لأنهم رأوا أن السياسي والقائد لا بد أن يأخذ ويعطي، ويتنازل عن شيء ليستمسك بشيء، وإلا كان كالشجرة الصلبة أمام الريح العاصفة، لا بد أن تنكسر لأنها لم تلِنْ».
وعن صفات عاطف بركات المميزة يقول «أمين»:
■ «هذه أكبر ميزة لشخصيته: حبه للنظام الدقيق، وتحريه للعدل المطلق، والتمسك به مهما جلب عليه من متاعب. تولى نظارة مدرسة القضاء الشرعي، وظل فيها أربعة عشر عاماً، فأشعَّ فيها روحه، وكان طلبتها وأساتذتها وزائروها يلمسون العدل ودقة النظام، ويتنفسون كل ذلك من جوها، فالمدرسة سائرة كالساعة، كل عضو يعرف عمله ويؤديه في وقته، وهم يرونه دائباً لا يملُّ، فيخجلهم بجده ونشاطه، فيقلدونه في سيرته؛ فإذا جدَّ الجد تجلَّى عدله في أكبر مظاهره». ثم يضرب أحمد أمين أمثلة يبين بها صرامة عاطف بركات في تمسكه بالحق والعدل:
■ «أراد الخديو عباس أن يعطي أحد المدرسين بالمدرسة درجة مالية.. أعلى من درجته، وأوفد إلى أعضاء مجلس إدارة المدرسة بذلك، فكلهم قبل نزولاً على إرادة الخديو ورغبة في المسالمة، ولكن «عاطفاً» رأى أن غير هذا الأستاذ أحق منه، وأن في إعطائه ظلماً على الآخرين، فأبى وأصرَّ على الإباء».
■ «.. كان عاطف بركات باشا وكيل وزارة المعارف، ولسعد زغلول باشا (خاله)، زعيم الأمة، كل السيطرة على شؤون البلاد ومصالح الحكومة، فطلب سعد منه أن يقبل ابن حمد الباسل باشا في مدرسة ثانوية، وكانت سنه تتجاوز السن القانونية بأشهر، فأبى «عاطف» وقال: إما أن نغير القانون ونقبله ونقبل كل أمثاله، وإما أن نرفض الجميع، وغضب «سعد» من ذلك أشد الغضب فلم يبالِ بذلك».
■ «لا فرق عنده في تحقيق العدالة بين قريبه وغير قريبه، ومن يعرفه ومن لا يعرفه، بل ولا بين من يحبه ومن يكرهه؛ أمام عينيه قوانين العدالة وكفى… ومثل هذا الرجل – وخاصة في مثل أممنا.. التي اعتادت الإفراط في المجاملة والمحسوبية – لا يكون محبوباً إلا من تلاميذه وخاصته، ولكنه يكون محترماً من الجميع».
■ «حين اقترح ناظر المعارف «أحمد حشمت» على مدرسة القضاء.. أن تعيِّن فلاناً مدرس خط، وكان فلان هذا من أحسن الناس خطّاً وأحسنهم خلقاً. أبى عاطف.. لأن قانون المدرسة يجعل اقتراح التعيين من حق مجلس إدارة المدرسة، وليس لناظر المعارف حق.. إلا القبول أو الرفض، لا حق الترشيح ابتداء، وكانت أزمة طويلة، و«عاطف» يرى الحق بجانبه، وناظر المعارف يرى أنه مُسَّ في كرامته… وأخيراً نزل ناظر المعارف عن رأيه، وأقرَّ من رشحته المدرسة لا من رشحه هو».
■ «كان عاطف بركات حرّ التفكير، لا يعبأ بالآراء الموروثة، ولا بالتقاليد المرعية في الأفكار، وكان طويل النفس في الجدل، قوي الحجة في المناظرة، لا يملُّ ولا يتعب، حتى قد يسلِّم له مجادله لا عن اقتناع، ولكن حبّاً في الراحة، وطلباً للسلامة» ا.هـ
■ لقد كان في مصر رجال كبار، يضعون نصب أعينهم قول الإمام محمد عبده: «إن الرجل الصغير يستعبده المنصب، والرجل الكبير يستعبد المنصب». وهكذا كان عاطف بركات باشا وتلميذه النجيب؛ أحمد أمين.
نقلاً عن «المصري اليوم»