عبدالله السناوي
يصعب القفز إلى استنتاجات أخيرة.. في معادلات وحسابات وموازين القوى والمصالح، إذا ما أخذ مشروع الشرق الأوسط الجديد مداه. المعادلات المحتملة مبتورة، والسيولة تجتاح الإقليم كله.
تتبدَّى الآن سيناريوهات متضاربة على 3 جبهات مشتعلة، والمفاوضات فيها على طرق شبه مسدودة.
الجبهة الأولى: الحرب على غزة، وما قد تسفر عنه من نتائج وتداعيات، تدخل في صلب الصراع على مستقبل الإقليم.. لعقود طويلة مقبلة.
السؤال هنا: إلى أي مدى يمكن أن تتمدد حربا الإبادة والتجويع.. دون رادع حقيقي، يوقف المأساة الإنسانية المروعة؟ بصياغة أخرى، هل يصح التعويل على أي دور أمريكي.. بعد إجهاض مشروع قرار في مجلس الأمن – باستخدام حق النقض – يدعو إلى وقف الحرب فوراً؟
الجبهة الثانية: المفاوضات الأمريكية-الإيرانية، وما قد تصل إليه من تفاهمات، أو ما قد تتدهور إليه من انفلاتات.
السؤال هنا: هل يمكن أن تنزلق الحوادث إلى عمليات عسكرية واسعة.. بتحريض إسرائيلي، تهدد سلامة الإقليم كله؟
الجبهة الثالثة: الحرب الأوكرانية، التي تتصدر الحسابات الدولية.. المتداخلة بأزمات الشرق الأوسط؛ حيث يتصاعد الحديث المتزامن عن التصعيد إلى الحافة النووية.. مع جولات تفاوض – غير مباشر – للوصول إلى تسوية.
السؤال هنا: أيهما أكثر ترجيحاً في الموازين الحالية.. بعد قصف المسيرات الأوكرانية لطائرات ومراكز عسكرية بالغة الأهمية والحساسية؟
إننا أمام حالة غير مسبوقة في سيولة النيران والسياسة معاً. الاحتمالات كلها مفتوحة، والأطراف الإقليمية كلها تتأهب لميلاد شرق أوسط جديد.. دون أن يكون واضحاً أمامها طبيعته، ومعادلاته، وموازين القوى.. التي سوف يستقر عليها.
برز مصطلح «الشرق الأوسط الجديد» لأول مرة.. إثر سقوط بغداد (2003). تبنَّته وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس.. بذريعة إشاعة الديمقراطية، لكنه ترجم نفسه عملياً.. في تفكيك، وتجزئة الدول العربية.. على أسس عرقية ومذهبية.
عاد المصطلح – مرةً ثانيةً – إلى واجهة الأحداث.. إثر ما أُطلق عليها «ثورات الربيع العربي»، التي تحولت أغلبها لحروب أهلية، نالت من دول كليبيا وسوريا واليمن. ثم مرةً أخرى.. إجهاض الديمقراطية بتدخلات غربية. ثم طُرح المصطلح أخيراً بعد صعود دونالد ترامب.
اللافت هنا، أنه لا تعنيه الأفكار والتصورات، فهو رجل صفقات بالمقام الأول.
تكفَّل «نتنياهو» بالمهمة.. لمقتضى هدفه الرئيسي في تمديد الحرب على غزة، وتوسيعها إلى أبعد مدى ممكن، حتى لا يجد نفسه خارج الحياة السياسية الإسرائيلية كلها.. متهماً بالاحتيال والرشى، فضلاً عن مسؤوليته عن أحداث السابع من أكتوبر (2023).
يكاد يتلخص الشرق الأوسط الجديد إسرائيلياً.. في 3 معادلات رئيسية: شطب القضية الفلسطينية، وتنحية إيران.. بإدخال تعديلات جوهرية على طبيعة أدوارها، وتهميش مصر.. حتى يفقد العالم العربي اتزانه، وأي قدرة له على التماسك.
شطب القضية الفلسطينية يتجاوز إخلاء غزة من أهلها.. بالتهجير القسري، أو الطوعي، والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة عليها، وتهويد القدس نيلاً من سلامة المسجد الأقصى.. إلى إعادة رسم خرائط الشرق العربي كله؛ بتقاسم النفوذ على سوريا مع تركيا.
هذه معادلة مبتورة، تهيمن عليها أوهام اليمين الصهيوني.. المتطرف.
ربما تجري إطاحة حكومة اليمين المتطرف.. بأسرع من أي توقع. وجود «نتنياهو» في الحكم.. بات عبئاً على مستقبل إسرائيل.
هذه حقيقة يتردد صداها.. في استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي.
تنحية إيران عن معادلات الإقليم.. معادلة مبتورة أخرى. إيران قوة رئيسية في الإقليم، وليست طارئةً عليه. هذه حقيقة أخرى.
القضية الحقيقية في المفاوضات الأمريكية-الإيرانية.. دورها الإقليمي، لا مشروعها النووي.
الهدف الغربي الجوهري.. استعادة إيران إلى الدور الذي كانت تلعبه أيام الشاه؛ شرطياً في المنطقة، لا ضربها عسكرياً، وتحطيم بنيتها التحتية.
إيران.. ليست بصدد التنازل بسهولة عن التخصيب النووي، فهذا يعني بالضبط.. تقويضاً لشرعية نظامها. الغرب – رغم الحملات الممنهجة والعقوبات الاقتصادية.. التي فرضها – لا يميل في إجماله إلى الخيار العسكري.. خشية تأثيراته الخطرة على جوارها حيث منابع النفط.
المثير للتعجب، أن إسرائيل تعتبر المشروع النووي الإيراني.. تهديداً وجودياً لها، رغم أنها تحتكر السلاح النووي، الذي يُعد تهديداً وجودياً للعالم العربي كله.
رغم المفاوضات، تلوِّح إسرائيل بعمل عسكري كبير ضد إيران. ذلك مجرد تلويح، فليس بوسعها أن تدخل مواجهة مفتوحة مع الإيرانيين.. دون غطاء أمريكي يحميها من ردات فعل، قد تشل الحياة فيها.
كان الاقتراب المصري-الإيراني خطوةً إيجابيةً، فلا يُعقل أن تظل العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مقطوعةً منذ (1979).
في ذلك السياق، بدا التركيز على تهميش مصر.. مقصوداً به أدوارها، التي تقتضيها حقائق الجغرافيا والتاريخ والمصالح، وأمنها القومي.
عندما انسحبت مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي بعد اتفاقية «كامب ديفيد» (1978)، تراجعت – بفداحة – أدوارها القيادية في المنطقة، ونفوذها في أفريقيا والعالم الثالث. ثم أفضت أوضاعها الاقتصادية الصعبة.. إلى الكلام المعلن عن سيناريوهات نقل مركز الثقل بعيداً عنها.
تحتاج مصر أن تواجه نفسها بالحقائق المستجدة. إذا أرادت أن تستعيد أدوارها مرةً أخرى، فلا بد أن تكون متأهبةً لتحسين ملف الحريات العامة وحقوق الإنسان، وتصويب المسار الاقتصادي المختل بفداحة، وأن تكون موحدة ومتماسكة.. لدفع أثمان وتكاليف أي مواجهات قد تفرض عليها.
لا أدوار مجانية. هذا هو درس التاريخ.
نقلاً عن «الشروق»