سمير مرقص
(1)
«خمس حروب في واحدة»
عقب اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية مطلع سنة 2022، قامت إحدى الباحثات المعتبرات بإعداد دراسة لتقييم طبيعة الحرب الروسية-الأوكرانية.. بعد ثمانية أشهر من اندلاعها، خلصت فيها إلى أن الحرب المستعرة.. تتجاوز أسبابها وأهدافها المباشرة والمعلنة، إلى ما هو أوسع من ذلك بكثير؛ أي أنها أكثر من مجرد صراع حدودي، وأنها في جوهرها تماثل – بالتمام – الحرب العالمية الثانية؛ من حيث إن كل حرب منهما هي حرب متعددة مستويات الصراع، أو حرب مركبة من عدة حروب.
وحددت الباحثة ذلك.. بقولها إن كل حرب كانت في حقيقتها، تتكون من خمس حروب في واحدة. وفصّلت عرضها وتحليلها كما يلي: أولاً: بالنسبة للحرب العالمية الثانية، حروبها الخمس كما يلي:
الحرب الأولى: كانت بين الإمبرياليات الكبرى القديمة، والبازغة آنذاك: بريطانيا، وألمانيا، واليابان، والولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تتنافس على الهيمنة على العالم.
والحرب الثانية: كانت بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا، وكانت بمثابة دفاع عن النفس من قبل الاتحاد السوفيتي، وعن النموذج الذي قدمه للعالم منذ ثورة العام 1917 الشيوعية.. في مواجهة الغزو النازي، الذي اعتبرته ثورة مضادة لهذا النموذج.
والحرب الثالثة: هي الحرب التي صارع فيها شعب الصين… ضد الإمبريالية اليابانية، وامتدت من 1937 إلى 1945، وذلك لاستعادة الأراضي الصينية المحتلة، وإيقاف المد الإمبريالي الإقليمي الياباني.
والحرب الرابعة: تتمثل في المقاومة الوطنية.. التي مارستها الشعوب للتحرر القومي من القوى الاستعمارية، ونيل الاستقلال؛ مثل حركة تحرير الهند.
والحرب الخامسة: تعكسها الحركات القاعدية (المواطنية).. التي انطلقت من أسفل واتخذت أشكالاً عدة، منها: الثورات الشعبية في مواجهة النازية والفاشية والاستبداد، والانتفاضات القومية والحروب الأهلية من أجل الاستقلال والتحرر، وتمرد القوى الاجتماعية المستقلة عن التيارات السياسية الحزبية التقليدية وجماعات المصالح.. التي تشكلت مدفوعة بغضب عارم؛ تناضل ضد الصراع الإمبريالي من جهة، والنموذج الستاليني من جهة أخرى، من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة.
(2)
«الحرب الروسية-الأوكرانية»
ثانياً: بالنسبة للحرب الروسية-الأوكرانية، فإنها تعبر عن الحروب الخمس التالية:
الحرب الأولى: المباشرة، لتصحيح الجغرافيا السياسية.. باستعادة أوكرانيا إلى الحدود الروسية. أما الثانية: فهي حرب بوتين/ الإمبراطورية الروسية القومية التي تدور ضد الخصم المزدوج: أوكرانيا وحلف الأطلسي.. دفاعاً عن الأمن القومي الروسي، والإبقاء (القسري) لأوكرانيا.. كمنطقة محايدة بين الغرب الأطلسي والشرق الروسي؛ أخذاً في الاعتبار.. أن الفكرة الأوروبية لا تبارح قيادات كييف منذ تفكيك الاتحاد السوفيتي، واستقلالها في 1999. وتعكس الحرب الثالثة: دفاع أوكرانيا عن ذاتها القومية ضد روسيا.. مجددة حروب القوميات الأوروبية التاريخية. وتشكل الحرب الرابعة: النموذج المثالي لحروب الوكالة؛ متمثلة في الدعم العسكري والمالي.. الذي وفرته الولايات المتحدة الأمريكية لأوكرانيا خلال السنوات الأخيرة، من أجل أن تتولى الحرب بالنيابة عن أمريكا ضد روسيا.. لحصارها، والحد من تمددها الأوروبي. أما الحرب الخامسة: هي «بروفة» الحرب المحتملة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.. التي انطلقت فعلياً على المستوى الاقتصادي.
(3)
«صفر تاريخي وحضاري»
إن أهمية الدراسة المقارنة بين الحرب العالمية الثانية والحرب الروسية-الأوكرانية.. هي التذكير بأن هكذا حروب، هي انعكاس لبلوغ مرحلة تاريخية – بما تجسده من قيم حضارية: ثقافية وعلمية – ذروتها، وإخفاق من كان يتصدر هذه المرحلة.. في الحفاظ على نضارتها وحيويتها، وتمكُّن قوى أخرى صاعدة.. من منافسة القوى القديمة اقتصادياً وعسكرياً. كذلك تمدد القوى الصاعدة كونياً تمدداً عابراً للقارات.
ومن ثم تنشأ الحرب.. التي تعكس وصول العالم إلى ما يمكن أن يوصف بـ«اللحظة التاريخية: صفر»، وأقصد بها.. اللحظة التي لا يصبح هناك إلا خيار الحرب، والاستعداد لها، وعدم التراجع عنها.. مهما كانت التكلفة.
وفي هذا المقام، نشير إلى كيف تعثر الميزان التجاري الأوروبي.. تعثراً كارثياً، إذ كان يحقق فائضاً قيمته 120 مليار يورو قبل ثلاث سنوات، ولكنه مع استمرار الحرب بات يتعرض لعجز قارب 500 مليار يورو في السنة الماضية. ما وصفه عالم الاجتماع السياسي والمؤرخ الفرنسي «إيمانويل تود» (1951ــ ) «بانتحار الغرب» في كتابه «هزيمة الغرب» The Defeat of the West (صدرت طبعته الإنجليزية مطلع 2024).. ما يعني نهاية زمن/ عصر وبداية آخر. إنها اللحظة «صفر»، أو اللحظة «الهوبزية» التاريخية – نسبة إلى الفيلسوف هوبز (1588- 1679)- صاحب فكرة حالة الطبيعة.. أو حرب الجميع ضد الجميع، أو حسب الأدبيات الكلاسيكية: حرب الإمبرياليات القديمة مع الإمبرياليات الجديدة، أو بلغة مباشرة/ مادية.. حرب النزاع على الموارد والثروة ومن ثم الهيمنة.
وهي كلها حروب.. متى توسعت وامتدت وتواصلت، تعني بلوغ البشرية اللحظة صفر. وينبغي التفكير فيما ستُحدثه من تحولات جذرية، إذ لن يعود العالم كما كان.
ولا أحتاج إلى التنويه بأن الحرب الراهنة في الإقليم، ليست بمعزل عما سبق. نعم الأساس هو الصراع الفلسطيني العربي-الإسرائيلي.. ولكن الصراع، تضاعف وبات يعكس لا خمسة صراعات متشابكة ومتقاطعة كما هو الحال في الحرب الروسية-الأوكرانية، وإنما أكثر من ذلك؛ ما أوصلنا إلى صفر تاريخي. ستنتج عنه تحولات جذرية.
نقلاً عن «المصري اليوم»