Times of Egypt

«القلماوي» و«الليالي» 

Mohamed Bosila
وجيه وهبة 

وجيه وهبة 

تبحر الذاكرة إلى مشاهد ليالٍ رمضانية.. من زمن أوائل الستينيات في القرن الماضي؛ مشهد الأسر تتحلق حول الراديو بعد الإفطار، لتستمع إلى «فوازير رمضان» – بالصوت المميز للإذاعية «آمال فهمي» – التي كان يكتبها العبقري بيرم التونسي.. بظرف وذكاء. وبعد الفوازير تنساب موسيقى «ريمسكي كورسا كوف».. «شهرزاد» معلنة عن بداية مسلسل «ألف ليلة وليلة».. من إعداد الشاعر المجيد طاهر أبو فاشا وإخراج الرائع محمد محمود شعبان، الشهير بـ«بابا شارو». ثم يتهادى صوت «زوزو نبيل» العميق «بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد…»، وتبدأ في الحكي، ويحبس السامعون الأنفاس وينطلق خيالهم بفعل هذا العمل فائق الإتقان في كل عناصره. 

ذِكر «ألف ليلة»، يستدعي ذكر الدكتورة «سهير القلماوي». هي من أوائل الفتيات اللائي التحقن بالجامعة المصرية، وهي التلميذة النجيبة لعميد الأدب العربي «طه حسين»، وهي أول طالبة تلتحق بكلية الآداب، وأول خريجة تقوم بالتدريس فيها، وأول دارسة تحصل على الدكتوراه منها. وتعود بي الذاكرة إلى مقال قرأته لهذه الأديبة الرائدة – منذ نحو أربعين عاماً – في مجلة «أكتوبر».. إن لم تخني الذاكرة، تنعى فيه ما وصلت إليه حالة التعليم الجامعي ومرحلة الدراسات العليا، وتتعجب من سهولة الحصول على درجة «الدكتوراه»، مستشهدة بما رأته بعينيها، وذلك حينما حضرت مناقشة رسالة دكتوراه لإحدى معارفها من الطالبات. فوجئت الدكتورة سهير بأن أهل الطالبة قد حضروا إلى المناقشة، ومعهم الحلوى والشيكولاتة والشربات، جاهزون للاحتفال، ومطمئنون للحصول على الدرجة.. قبل مناقشة الرسالة، تلك المناقشة «الناعمة».. التي لم تستمر طويلاً، لتنتهي بالزغاريد والحصول على درجة الدكتوراه. 

ثم انتقلت د. سهير، في مقالها، إلى المقارنة بين ذلك المشهد، ومشهد حصولها هي ذاتها على درجة الدكتوراه، قبل ذلك اليوم بنحو أربعين عاماً. حكت «سهير القلماوي» كيف أنها بعد أن حصلت على شهادة الماجستير، كانت تتردد على أستاذها طه حسين.. لتبحث معه عن موضوع للبحث، ليكون رسالتها للدكتوراه. وذات مرة، وأثناء أحد تلك اللقاءات، جاءت على لسان «العميد» كلمة لم تعرف «سهير» معناها، فسألته عنها. وأجاب «العميد» ألا تعرفين معناها؟ إذن فلتكن رسالتك للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، لقد وردت هذه الكلمة بها، وستعرفين معناها حينئذٍ. 

بعد أن انتهت «سهير» من الرسالة، تحت إشراف الدكتور «العميد»، حانت لحظة المناقشة، أمام اللجنة العلمية ـ التي كان من بين أعضائها بالطبع، الأستاذ المشرف ـ وتصف «سهير» كيف أنها.. ولعدة ساعات (ربما سبع ساعات)، كانت ترد على أسئلة وملحوظات أعضاء لجنة المناقشة؛ الذين كان أشدهم قسوة عليها.. أستاذها المشرف «طه حسين» ذاته، وأنها ظلت – حتى انتهاء المناقشة الطويلة – لا تعرف أنها سوف تنجح وتنال الدرجة أم لا. 

كان مقال الدكتورة «سهير القلماوي» بمثابة صيحة تحذير.. من ابتذال العلم والدرجات العلمية، في تلك الآونة.. منذ أربعين عاماً، وهو الأمر الذي تفاقم مع مرور السنين، حتى أصبح عدد حمَلة درجة «الدكتوراه» في يومنا هذا.. يدعو للدهشة والتساؤل. 

تنتمي «ألف ليلة وليلة» إلى النوع الأدبي المسمى «الأدب الشعبي». وتتعدد الأمكنة والأزمنة التي تتكون منها حكاياتها، وربما ترجع أصول بعض تلك الحكايات – حسبما يذكر الدارسون ـ إلى «الهند»، أو إلى «بلاد فارس»، ثم انتقلت إلى «العراق» (في العصر العباسي)، ثم «مصر»، مروراً ببلاد «الشام»، وفي كل مرحلة ومكان.. تتم إضافة حكايات إليها. ولعل أهم تلك الحكايات هو ما دارت أحداثها في «بغداد» وفي «مصر». وحين تمت ترجمة «ألف ليلة وليلة» إلى اللغات الأوروبية.. في مطلع القرن الثامن عشر، كان لها ـ من جديد ـ أثر عظيم على الأدب والفن الغربي. وكان من رأي الفيلسوف الألماني «هيجل» أن الجزء المصري من الليالي هو أمتعها. ومن تلك «الليالي»، نعرض لبعض مما ورد في حكاية «علي شار» و«زمرد» لما حوته من عِبَر، من خلال نثر وأشعار طريفة: 

حين حضرت الوفاة التاجر الثري، استدعى ابنه «علي شار» ليوصيه ببعض النصح قائلاً: 

«ولدي، احفظ الله يحفظك، وصُن مالك ولا تفرِّط فيه، فإنك إن فرَّطت فيه.. تحتَجْ إلى أقل الناس، واعلم أن قيمة المرء ما ملكت يمينه، وكما يقول الشاعر: 

إِنْ قَلَّ مَالِي فَلَا خِلٌّ يُصَاحِبُنِي 
أَوْ زَادَ مَالِي فَكُلُّ النَّاسِ خِلَّانِي 
فَكَمْ عَدُوٍّ لِأَجْلِ الْمَالِ صَاحَبَنِي 
وَكَمْ صَدِيقٍ لِفَقْدِ الْمَالِ عَادَانِي 

«شاور مَن هو أكبر منك سنّاً، ولا تعجل في الأمر الذي تريده، وارحم مَن هو دونك.. يرحمك مَن هو فوقك، ولا تظلم أحداً.. فيسلط الله عليك مَن يظلمك، وما أحسن قول الشاعر: 

اقْرِن بِرَأيِكَ رَأي غَيرِكَ وَاستَشِر 
فَالرأي لَا يَخفَى عَلَى الاثنَينِ 
فَالمَرءُ مِرَآةٌ تُرِيهِ وَجهَهُ 
وَيَرَى قَفَاهُ بِجَمعِ مِرآتَينِ 

وقول الآخر: 

تَأَنَّ وَلَا تَعجَلْ لِأَمْرٍ تُرِيدُهُ 
وَكُنْ رَاحِماً لِلنَّاسِ تُبلَ بِرَاحِمِ 
فمَا مِن يَدٍ إِلَّا يَدُ اللهِ فَوقَهَا 
وَلَا ظَالِمٌ إِلَّا سَيُبلَى بِأَظلَمِ 

وقول الآخر: 

لَا تَظلِمَنَّ إِذَا مَا كُنتَ مُقتَدِراً 
إِنَّ الظَّلُومَ عَلَى حَدٍّ مِنَ النِّقَمِ 
تَنَامُ عَينَاكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ 
يَدْعُو عَلَيكَ وَعَينُ اللهِ لَمْ تَنَمْ 

ومات الرجل، وكتبوا على قبره: 

خُلِقْتَ مِنَ التُّرَابِ فَصِرْتَ حَيّاً 
وَعُلِّمْتَ الْفَصَاحَةَ فِي الْخِطَابِ 
وَعُدْتَ إِلَى التُّرَابِ فَصِرْتَ مَيْتاً. 
كَأَنَّكَ مَا بَرِحْتَ مِنَ التُّرَابِ 

خالط «علي شار» أصدقاء السوء، فقال في نفسه: والدي جمع لي هذا المال، وأنا إن لم أتصرَّف فيه، فلمَن أخلِّيه؟، والله لا أفعل إلا كما قال الشاعر: 

إِنْ كُنْتَ دَهْرَكَ كُلَّهُ 
تَحْوِي إِلَيْكَ وَتَجْمَعُ 
فَمَتَى بِمَا حَصَّلْتَهُ 
وَحَوَيْتَهُ تَتَمَتَّعُ 

ومازال علي شار يبذل في المال آناء الليل وأطراف النهار.. حتى أذهَبَ ماله كله وافتقر، فساء حاله، وتكدَّر باله، وباع الدكان والأماكن وغيرها…. فلما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، وقع في الحسرة، وقعد يوماً من الصبح إلى العصر.. بغير إفطار، فقال في نفسه: أنا أدور على الذين كنتُ أنفق مالي عليهم، لعل أحداً منهم يُطعِمني في هذا اليوم. فدار عليهم جميعاً، وكلما طرق باب أحد منهم.. ينكر نفسه، ويتوارى منه حتى أحرقه الجوع، ثم ذهب إلى سوق التجار. وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح. 

نقلاً عن «المصري اليوم» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *