زياد بهاء الدين
في لقاء دعا إليه – مشكوراً – السيد رئيس مجلس الوزراء.. لسماع وجهة نظري في الوضع الاقتصادي، وبالذات جذب الاستثمار، تطرَّق الحديث إلى دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وما تم بشأن «وثيقة ملكية الدولة».. التي أطلقتها الحكومة منذ ما يقرب من عامين.
وللتذكرة، فإن الوثيقة كانت قد صدرت.. بعد حوار مع مجتمع المال والأعمال، لكي تطمئن الرأي العام والجهات الدولية، إلى أن الدولة وضعت تصوراً لتقليص دورها في النشاط الاقتصادي، وتضمنت الوثيقة أرقاماً محددة.. عن نسب تخارجها من أنشطة معينة، كما وضحت خططها للبقاء والتوسع في مجالات أخرى. وقد قُوبلت الوثيقة وقتها بالترحيب، باعتبارها تحدد خريطة طريق للمستقبل، وتمنح القطاع الخاص قدراً من الوضوح والشفافية.
شخصياً.. رحبت بها أيضاً وقتها، ولكن تحفظت على ما اعتقدت أنه تحديد مبالغ فيه.. لنسب التخارج أو الاستمرار أو التوسع؛ محذراً من أن هذا التحديد.. سيمثل التزاماً على الحكومة، قد لا تتمكن من تحقيقه، خاصة أن مفهوم الدولة في الوثيقة متضمن بالفعل. وأظن أن تحفظي كان في محله، لأن ما تحقق بالفعل من الوثيقة.. كان محدوداً، خاصة أن الجزء الأكبر من حصيلة التخارج النقدية المحققة، مصدره صفقة رأس الحكمة التي لم تكن في الوثيقة أصلاً، وتُعتبر بيعاً عقارياً، لا تخارجاً من نشاط اقتصادي.
على أي حال، فإن الظروف تبدلت خلال العامين الماضيين؛ أزمة اقتصادية، وحرب غزة، واتفاق صندوق النقد، واتفاق رأس الحكمة، وتعثر إيرادات قناة السويس، وتشكيل حكومة جديدة، واهتمام حكومي جديد بتنشيط الاستثمار.
… مع كل هذا، بقي موضوع دور الدولة في النشاط الاقتصادي غير واضح وغير محسوم، ومصدراً أساسياً لقلق المستثمرين. والحقيقة، أنه لم يعد موضوعاً فنياً يهم المجتمع الاستثماري والدوائر المالية العالمية فقط، بل صار موضوعاً دارجاً في الرأي العام.
لكل ما سبق، فقد كانت نصيحتي للسيد رئيس مجلس الوزراء: أن «نجر خط» على الوثيقة الصادرة من عامين، ونعتبر أن الوقت والتجارب والظروف المتغيرة.. قد فرضت علينا ليس التعديل والتبديل، وإنما إطلاق وثيقة جديدة (ومعها بالطبع سياسة جديدة)، تختلف عن النسخة السابقة وتحظى بمصداقية أكبر.
ولكي لا تكون مجرد «نسخة معدلة».. بل بداية جديدة، فإن ما ينبغي أن يميزها عن السابقة هو الآتي:
أولاً: أن تكون وثيقة توجهات وسياسات، وليس أرقام ومستهدفات؛ فالغرض من الوثيقة ليس وضع نسب محددة للتخارج من الصناعات المختلفة.. تلتزم الحكومة بها، بل شرح وتوضيح سياستها العامة، وتوجهاتها، والمساحات التي تنوي تركها للقطاع الخاص، والمبادئ التي تضمن المنافسة السليمة. أما مستهدفات التخارج الرقمية، فقد يكون موضعها في برنامج الحكومة السنوي أو في بيان آخر، ولكن ليس في وثيقة سياسات تحدد التوجه العام.
ثانياً: أن تدخُّل الدولة في النشاط الاقتصادي – الذي بات عقبة حقيقية أمام نمو القطاع الخاص – لا يتمثل في مجرد إنشاء شركات وتملك أسهم وأصول، بل هناك أشكال أخرى من التدخل.. تُقلق المستثمرين، لأنها تعبر عن السيطرة الفعلية على النشاط الاقتصادي: عدم سلامة المناخ التنافسي، التدخل الإداري في شؤون السوق، الرسوم المفروضة من أجهزة الدولة، غياب المعلومات، الموافقات المبالغ فيها.. كل هذا يُقيد ويُعرقل النشاط الخاص، وليس فقط ملكية الدولة لشركات ومصانع وعقارات.
ثالثاً وأخيراً: أننا جميعاً – حكومة وأهالي – وقعنا في مصيدة اعتبار أن إصلاح دور الدولة في الاقتصاد، يتحدد فقط بمقدار تخارجها من النشاط الاقتصادي، وبقيمة ما تبيعه من أصولها («الخصخصة» بالتعبير القديم).
والحقيقة أن الهدف لا ينبغي أن يكون مجرد تحقيق حصيلة مالية، بل المطلوب هو سياسة أشمل، تتضمن – بجانب التخارج – قيام الدولة بوضع السياسات الجاذبة للاستثمار، والتشريعات التي ترمي إلى تحسين مناخ النشاط الاقتصادي، والمساندة الفعلية التي يمكن تقديمها للقطاع الخاص، وغير ذلك من الأدوار الإيجابية المختلفة.. المرتبطة بمفهوم «دور الدولة في النشاط الاقتصادي»، الذي لا يقتصر على التخارج.
الوقت حان لإصدار وثيقة جديدة تُعبر عن سياسة وتوجه أكثر شمولاً.. تجاه موضوع دور الدولة الاقتصادي؛ لأنه الموضوع الأكثر خطورة وإلحاحاً وصعوبة أيضاً، ولا يصح أن يتحول لمجرد برنامج بيع وخصخصة، وإن كان بتسمية جديدة.
والأهم طبعاً من كتابة الوثيقة ونشرها.. أن تتحول إلى سياسة حقيقية ونافذة.
■ ■ ■
والشكر موصول للسيد رئيس مجلس الوزراء.. على دعوته، وعلى إنصاته، وسعة صدره.
نقلاً عن «المصري اليوم«