نبيل عبدالفتاح
أدت الثورات التكنولوجية الأربع.. إلى تحولات كبرى في الاقتصادات الرأسمالية الغربية، وخارجها، وفي انساق القيم والأخلاقيات، وفي الثقافات الكبرى، وفي الأنظمة القانونية المختلفة، وفي العلاقات الدولية، والأنظمة السياسية الليبرالية.
فالتكنولوجيا ليست محض آلات وأجهزة، وإنما تحمل فى أصلابها قيماً، وأفكاراً، ثم تتحول بعد ابتكارها إلى محركات جديدة لقيم جديدة مختلفة، وتؤدي إلى تفكيك وتحطيم قيم سابقة، باتت تقليدية وغير قادرة.. على مواكبة التغيرات التكنولوجية، وانعكاساتها على البنى الفكرية، ومفاهيم العمل، والزمن، وأيضاً على نظريات الأمن الداخلي والخارجي، وعلى مفهوم الحرية، وعلى الفلسفات السياسية والقانونية.
أدت التطورات التكنولوجية إلى تغيير قيم المجتمع الزراعي واقتصاداته، وتطوير السياسات الزراعية، وأساليب الإنتاج الرأسمالية، وتوحيد الأسواق، وأيضاً إلى التوسع الرأسمالي، والغزو الأوروبي لعديد بلدان العالم المتخلف؛ من الاستعمار البريطاني، والفرنسي، والإيطالي، والبلجيكي، والإسباني والبرتغالي.
على صعيد الثقافات القانونية والسياسية، أدت التكنولوجيا وثوراتها إلى تشكل أنساق قانونية جديدة.. تنظم تمدُّد التكنولوجيا في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية، في قوانين التجارة، والصناعة والنقل الجوي، والبحري، والبري، وأيضاً في قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية… إلخ.
لا شك أن الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي، ستسهم في نقلة نوعية، وربما قطيعة مع بعض الأنظمة القانونية، التي تشكلت تاريخياً، في أوروبا، وأمريكا الشمالية، بل والأجهزة التي تكافح الجريمة، ونوعية السلوكيات الإجرامية الجديدة، التي يرتكبها بعضهم في بلدان العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في النصب، واختراقات حسابات المصارف، والمواقع الأمنية، والشركات الكونية العابرة للقارات والحدود، وفي التحريض على ارتكاب الجرائم التقليدية كالقتل، والسرقة، والرشوة، والاختلاس…إلخ!
أدت الثورة الصناعية الرابعة والحياة الرقمية.. إلى انكشاف الخصوصيات، وإلى تفكك نسبي – حتى الآن – بين القانون، والحريات العامة، والخاصة، وأيضاً إلى توظيف الرقمنة والذكاء الاصطناعي في ارتكاب الجرائم.. بوسائل وآليات مختلفة، ومن ثم إلى تطور كبير في أدوات وآليات ارتكاب الجرائم، والسلوك الإجرامي.
شهد تاريخ ارتكاب الجرائم – في كافة بلدان العالم – تحولات في أساليب السلوك الإجرامي، وتغيره معها مع كل تطور تكنولوجي نوعي، وهو ما يؤدي إلى أشكال وآليات مختلفة في ارتكاب الجرائم، وأيضاً إلى صراع بين ذكاء بعض المجرمين، والأخيلة الإجرامية المستجدة والمتطورة، وبين الأجهزة الأمنية في كل دولة ومجتمع، وخاصة فى شمال العالم الأكثر تطوراً.
هذا الصراع الضاري بين التكنولوجيا المتطورة.. المستخدمة في الجريمة ومرتكبيها، وبين العصب الإجرامية، وبين الأجهزة الأمنية.. بات جزءاً من تاريخ تطور أساليب الجريمة، وأيضاً سياسات المكافحة، والكشف عنها، وإدخال تعديلات ونصوص جديدة مواكبة في القوانين العقابية والإجرائية في عالمنا.
الثورة الرقمية والذكاءالاصطناعي أتاحا لبعض أجيال من الصبية والشباب قدرات واسعة في استخدام التقنيات الجديدة، واختراق الحسابات السرية في المصارف الكبرى، وأسرار الشركات، بل والأجهزة الأمنية، والجيوش.. أياً كانت درجات تطورها التقني والتسليحي والعسكري، وفي التحريض والمشاركة مع آخرين في الاتفاقات الجنائية.
في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ومواقع حزب الله في لبنان، بات واضحاً استخدام أساليب تقنية فائقة التطور في مجال الجرائم.. المنهي عنها في القانون الدولي الإنساني وقانون الحرب؛ كالإبادة الجماعية، والحصار والعقاب الجماعي، والتجويع ومنع المساعدات الإغاثية والطعام والمياه والأدوية والمستلزمات الطبية، والاعتداءات على المستشفيات والمراكز الطبية، والكنائس والمساجد ودور العبادة.. المنهي على سلطات وقوات الاحتلال العسكري القيام بها ضد السكان المدنيين، ومعاملة أسرى الحرب، وسياسة الاغتيالات.. من خلال تقنيات الرصد الرقمية والذكاء الاصطناعي، وتحديد المواقع، والشخصيات، واستهدافها بالطائرات المسيَّرة والصواريخ والقنابل المدمرة للأنفاق، والشخصيات.. على نحو ساهم في تطوير آليات تطبيق سياسة الاغتيالات في نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، بالإضافة إلى عمليات التجنيد لبعض العملاء.. في مناطق تركز قادة حزب الله وقواته، وحواضنه الاجتماعية الطائفية وغيرها في الضاحية الجنوبية، والبقاع وجنوب لبنان، وأيضاً في قطاع غزة والضفة الغربية.
من ناحية أخرى نجد توظيف «حماس» للذكاء الاصطناعي والرقمنة.. من بعض شباب الحركة في عملية «طوفان الأقصى»، التي أظهرت الخيال الرقمي والعسكري للمقاومة، في مواجهة الاحتلال الاستيطاني لإسرائيل للأراضي المحتلة بعد عدوان الخامس من يونيو 1967. أيضاً كشفت حرب المسيَّرات بين حزب الله، وإسرائيل عن توظيف الذكاء الرقمي لدى بعض كوادر الحزب.. في تحديد بعض المواقع الاستخباراتية والعسكرية للجيش الإسرائيلي.. المحتل لبعض الأراضي اللبنانية. لا شك أن ذلك سيؤدي – على الأرجح مستقبلاً – إلى دفع الدول الكبرى في عالمنا إلى إحداث تعديلات وإضافات جديدة.. على قوانين الحرب، والدولي الإنساني.
الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وانكشاف مفهوم الخصوصية القرين بالحريات الشخصية، أدى إلى بروز أنظمة رقابية متقابلة ومتصارعة . برزت ظاهرة الرقابات الفردية المتبادلة من بعضهم على الحسابات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، من الأفراد الرقميين على بعضهم بعضاً، وأيضاً إلى هتك الخصوصية، والأخطر هو اصطناع بعض الأفراد الرقميين صوراً عارية أو مخجلة لبعضهن، أو بعضهم ، وبثها على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعها اصطناع الأكاذيب، والأخبار السلبية إزاء الآخرين، وهو ما أدى إلى استخدام بعض الجماعات السياسية المعارضة.. الأخبار الكاذبة، والصور المصطنعة في هجاء القادة السياسيين، وخصومهم، وأيضاً من هؤلاء إزاء معارضيهم، وإسناد اتهامات وهجاءات لهم، والسخرية منهم، والتحقير من شأنهم، من خلال جماعات منظمة على الواقع الرقمي.
ثمة أيضاً رقابات الأفراد.. عبر الهواتف المحمولة للجرائم، وتفاصيل الوقائع اليومية من الجرائم، والمخالفات، بل والتنصت على الآخرين وتصويرهم، وتسجيل مكالماتهم الهاتفية، وأساليب البوح الحميمية ، وغيرها من اعترافات، أو نميمة على الآخرين… إلخ.
باتت الحرية محاصرة رقمياً، وفعلياً، على الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وصراع رقابات متبادلة سياسياً وأمنياً وفردياً من كل طرف على الآخر، بل واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي – بديلاً عن الإعلام التقليدي.. من الصحف والقنوات التلفازية والإذاعات – في التأثير على توجهات الجماعات الناخبة كما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ونجاح ترامب.
عالم من الأنظمة الرقابية، وشبكاتها المعقدة وصراعاتها، باتت مؤثرة على مفهوم الحرية والليبرالية الغربية والقانون، وبات الفرد الرقمي والفعلي.. عارياً أمام التحولات التكنولوجية فائقة السرعة والتطور، ومن ثم سيؤثر ذلك على مفهومي الحرية والقانون في العقود المقبلة.
نقلاً عن «الأهرام»