عمار علي حسن..
في أوقات الفراغ السياسي، وحين لم تتمكن الحركات المنتظمة.. من جذب الشباب الفلسطيني واستيعابه، لجأ بعضهم إلى إطلاق «حراك»..ليس له قوام تنظيمي متدرج أو تراتبي، ولا يلتزم بأيديولوجية معينة، وقد يكون هدفه هو الإبقاء على النشاط السياسي حياً، وإبداء احتجاج في وجه المنظمات التي تتصدى للعمل الوطني، لكنها لا تشكل أطراً فاعلة.. تقدم برامج، وتتخذ مواقف قادرة على مواجهة التحديات، وتحصيل التأييد الشعبي الواسع.
ومثَّل الحراك الشبابي في تاريخ القضية الفلسطينية.. فرصاً سانحة لقيام التنظيمات نفسها، فبعد الشلل الذي أصاب «المؤتمر العربي الفلسطيني»..الذي كان بمنزلة برلمان فلسطين وقيادتها السياسية، طفا على السطح «مؤتمر الشباب الفلسطيني»، وقامت «رابطة طلبة فلسطين» في القاهرة.. مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، وأفرزت فيما بعد «حركة التحرير الفلسطينية- فتح»، وكوّن الطلاب «جمعية العروة الوثقى» في الجامعة الأمريكية ببيروت، التي أنتجت «حركة القوميين العرب»، والتي انبثقت عنها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».
وفي سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، شكّل الحراك الشبابي.. ذراعاً لفصائل وأحزاب، وظفته في تجديد طاقتها، وتوسيع شعبيتها، ثم انتبهت هذه الفصائل.. لأهمية تكوين كتل تابعة لها – أو نابعة منها – بين الطلاب والشباب، تنافست داخل «الاتحاد العام لطلبة فلسطين»، ثم لم تلبث أن امتثلت لإرادة القيادة الفلسطينية في التسعينيات.. ببناء سلطة؛ كخطوة مهمة – في نظر أركانها – على طريق إقامة دولة، مثلما نصّت على ذلك اتفاقية أوسلو 1993. وانخرط بعض الشباب في هذا المشروع.. الذي يمتزج فيه الإداري بالسياسي، ويتخفف من الأيديولوجية إلى حد كبير، لاسيما في ظل انهيار الكثير من المنظمات الشبابية والطلابية، بما فيها الاتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي توقفت انتخاباته عام 1990، وتلاشت فروعه في دول عديدة.
وصارت الحراكات الشبابية الفلسطينية.. ترى أن دورها – بعد عام 2010 – هو إشغال المجال أو الفضاء العام؛ بالخروج إلى الشارع، وتنظيم الاعتصامات والإضرابات، ونصب الخيام للنازحين، والقيام بالتثقيف السياسي، وإجراء حوارات سياسية مباشرة.. حول القضايا الأساسية؛ ومنها سبل إنهاء الانقسام الفلسطيني، وإبداء الرفض لسلطة المكاتب، وإعادة الاعتبار للسياسة.. بوصفها فعلاً شعبياً، وممارسة الضغط على متخذي القرار في التنظيمات الفلسطينية، لكن هذا كان يتم على نطاق ضيق، ودون أن تنجح هذه الحركات في بناء قواعد جماهيرية لها.
وشهدت السنوات بين 2011 و2018.. ميلاد الحراكات الشبابية الأكثر عدداً في التاريخ الفلسطيني منذ النكبة؛ إذ قام في الضفة الغربية والأردن وسوريا وخارج العالم العربي حراك شبابي لافت، وهي مسألة يرصدها كتاب «الشباب الفلسطيني.. من الحركة إلى الحراك» الذي حرّره أحمد جميل عزم، بعد دراستي جميل هلال: «الشباب الفلسطيني.. المصير الوطني ومتطلبات التغيير»، و«رؤية استشرافية.. الحراكات الشبابية الفلسطينية». تتفق الكتب الثلاثة على وجود عدة سمات للحراك الشبابي، هي:
1 – التبرؤ من الحزبية والفصائلية، أو العمل باستقلال عنها، حتى لو كان بعض الشباب أعضاء في هذه الأحزاب، أو تلك الفصائل.
2 ـ غلبة روح الرفض على هذه الحراكات؛ فهي تعرف ما لا تريد أكثر من معرفتها ما تريد، تنقد وتنقض، لكن لا تطرح بديلاً، رغم أنها تتمنى لو تمكنت من تحقيق ذلك.
3 ـ ترفض الحراكات وجود قيادة مركزية لها، أو بنية سياسية واجتماعية واقتصادية متماسكة لعملها، وتفرض الالتزام بتصوراتها وقراراتها، ولذا فهي تعمل من خلال «نشطاء» وليس «أعضاء»،وتتخذ قراراتها بالتوافق أو الإجماع.
4 ـ لا تقيم الحراكات وزناً للعقائد السياسية أو الأيديولوجيات والبرامج، إنما تتخفف منها تماماً، وتفضل الحلول العملية المباشرة، والانخراط في صفوف الجماهير دون تردد.
5 ـ تتصف الحراكات بالموسمية، أو غياب الاستمرارية؛ فهي تولد لتؤدي دورها.. ثم تتوقف، تتوهج ثم تنطفئ، لتعود لتبزغ من جديد، ولو بعد حين. ما يعني أنها ذات طابع رمزي ومشهدي.
6 ـ يغلب الطابع الشبابي على هذه الحراكات، رغم أن الشباب ليسوا فئة متجانسة، ولا يفكرون ويتصرفون – بالضرورة – بشكل مختلف عن الشيوخ، ولا تمثل وسيلة التواصل التي يعتمدون عليها، وهي شبكة الإنترنت، وسيلة ناجعة في كل الأحوال والمواقف.. لتحقيق أهدافها، فهي تجري في أوصال «عالم افتراضي» حتى لو سهل لها التفاعل المؤقت.
7 ـ اتسمت هذه الحراكات بالمحلية، أو العمل داخل مجتمع ضيق.. في الواقع المعيش، وحتى على شبكة الإنترنت.. تظل الحراكات – في الغالب الأعم – عبارة عن مجموعات متجاورة، حلقية أو شللية.
8 ـ تفتقد هذه الحراكات إلى الرؤية السياسية الشاملة، التي تتصدى بوعي وتكامل.. للمشروع الاستعماري الإسرائيلي، نظراً لانهماكها في قضية محددة أو فرعية أحياناً، فهي تعبئ الناس حول هذه القضية أو الحدث، لكنهم لا يلبثون أن يتخلوا عنها.
9 ـ انشغلت هذه الحراكات – في كثير من الأحيان – بمخاطبة الخارج، ومحاولة جلب تعاطفه، أكثر من اهتمامها بتثوير المجتمع الفلسطيني المحلي، وبناء وعي يشكل مقاومة شاملة، ومساعدته على تطوير بدائل عيش بعيداً عن حيز الاحتلال الإسرائيلي.
وهذه السمات ليست بالضرورة إيجابية، بل فيها الكثير من السلبيات، فالافتقار إلى الأيديولوجية.. يؤثر أحياناً على التماسك والديمومة، والافتقاد للقيادة المركزية.. قد يعزز الانقسام والتشظي والانهيار، وضعف أو غياب الهيكل التنظيمي.. يصنع التصدع سريعاً، والعضوية الفضفاضة.. يؤثر سلباً على الانتظام والالتزام داخل العمل السياسي، والاعتماد على وسيلة منخفضة التكلفة (مثل وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني).. لا يأتي بعائد كبير في كل الأحوال.
لهذا، لابد من إجراء نقاش عميق، يجعل الحراك أكثر فاعلية واستقراراً، وليس مجرد شرارة.. ما إن تبزغ وتنطلق حتى تتلاشى. ويمتد هذا النقاش إلى مهمة الحراك في التثقيف السياسي، ودعم التنظيمات القائمة بالفعل، وتعبئة الجمهور في أوقات الأزمات.. حول القضايا الكلية، والاستفادة مما تمنحه الأيديولوجيات لمعتنقيها.. من قوة واستمرار، والتحلي بالواقعية في تقييم القوة وتوظيفها، ومعرفة الفروق الجوهرية بين التناقضات الرئيسية والثانوية.. سواء على مستوى الأفكار أو الممارسات، والإلمام بوسائل توحيد – أو على الأقل تناغم – الأفكار والأمزجة، وخلق المصالح المشتركة، وتعزيز الثقة المتبادلة، وإدراك خصائص المجتمعات.. التي تقوم فيها حركات تحرر وطني؛ حيث تكون هناك نواة صلبة للكفاح، حولها جبهات مساندة، ودوائر أوسع للتضامن، وفيها قوى معارضة أو رافضة للمقاومة، وهنا يجب عدم وضع حركات التحرر.. في تناقض تام أو خلاف وشقاق وتناحر داخلي، يفيد الاحتلال في نهاية الأمر.
نقلاً عن «المصري اليوم»