Times of Egypt

الخِفَّة الاستراتيجية 

Mohamed Bosila
د. أحمد يوسف أحمد  

د. أحمد يوسف أحمد 

صك الرئيس مصطلح «الاتزان الاستراتيجي».. للتعبير عن الحالة الراهنة للسياسة الخارجية المصرية التي تنسج، باقتدار، شبكة متوازنة من العلاقات بالقوى العالمية والإقليمية.. من شأنها تيسير تحقيق هذه السياسة أهدافها في الظروف المتشابكة المعقدة للبيئتين العالمية والإقليمية. وأود، بالمقابل، أن أصك مصطلح «الخِفَّة الاستراتيجية» كمصطلح مقابل.. للتعبير عن محتوى سياسات تعكس جهلاً مطبقاً بدروس خبرات التاريخ البعيدة والقريبة، كما تتبدى حالياً في تلك الأصوات الأمريكية والصهيونية – بصفة خاصة – التي سارعت بعد الضربات الموجعة التي وُجهت للمقاومة في لبنان وغزة.. من قتل وتدمير غير مسبوقين، وآخرها القضاء على القيادات العليا للمقاومة، إلى الدعوة لحصاد غير ناضج لهذه الضربات، وذلك بالحديث عن صيغ أمنية وسياسية لحكم غزة، وإنجاز الانتخاب المؤَجَّل لرئيس الجمهورية في لبنان، والتخلص من مقاومته والتوصل إلى تسويات جديدة فيه.. وكلها – إن في غزة أو لبنان – تحقق الأهداف الإسرائيلية بالكامل، وتؤسس لشرق أوسط جديد يروج له نتنياهو، ناسياً أنه يردد هذا الكلام كالببغاء منذ سنة.. دون أن يحقق شيئاً، أو حتى يُخلِّص أسراه ورهائنه من قبضة المقاومين، ولدى هذه الأصوات الجرأة على أن تقول ذلك، وكأن المواجهات في ساحات المعارك قد حُسِمَت وبصفة نهائية لمصلحة إسرائيل، وكأن أداء المقاومة في غزة ولبنان لا يتواصل، بل هو آخذ في التصاعد، وكأنهم نسوا أحاديث «اليوم التالي» في غزة التي تجاوز عمرها سنة كاملة دون أن تظهر بوادر لذلك اليوم.. الذي يحلمون بأن يكون يوم انتصارهم على إرادة المقاومة. 

والأعجب حقاً ما يبدو من أن هؤلاء عاجزون عن فهم منطق التاريخ ودروسه وخبراته الماضية – القريبة منها والبعيدة – فهم لا يفهمون – مثلاً – استمرار المقاومة الفلسطينية منذ بدأت ملامح المشروع الصهيوني تتبلور في فلسطين، كما عبَّرت عن نفسها في انتفاضة البراق وثورة 1936، وغارات الفدائيين من غزة على مستعمرات النقب في خمسينيات القرن الماضي، وتصاعد المقاومة بعد عدوان 1967 واحتلال غزة والضفة الغربية، وتنوع أساليب المقاومة بين الأساليب المدنية.. كما في انتفاضة الحجارة التي دامت لسنوات منذ أواخر 1987، وتطعيم انتفاضة الأقصى بالكفاح المسلح، الذي أفضى لإجبار إسرائيل على الانسحاب من غزة في 2005، بل وتفكيك المستوطنات القريبة منها.. خشية أن تطولها يد المقاومة، وصمود المقاومة في غزة في وجه الاعتداءات الإسرائيلية المتتالية، وبصفة خاصة منذ 2008/2009 وحتى آخر الاعتداءات في مايو 2023 قبل «طوفان الأقصى» بأشهر، ناهيك عن قدرتها على إيلام عدوها.  

وعلى الصعيد اللبناني، يبدو أن ذاكرتهم غيَّبت دروس العدوان الإسرائيلي على لبنان في 1982، والذي صمدت فيه بيروت لقرابة 3 أشهر.. قبل أن تدخلها القوات الإسرائيلية، بعد خروج المقاتلين الفلسطينيين منها. وصحيح أنه تم انتخاب رئيس جمهورية جديد للبنان، وتوقيع اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل.. في ظل الغزو، لكن الرئيس الجديد اغتيل.. قبل أن يتسلم مهام منصبه، وأُسقط الاتفاق الإسرائيلي-اللبناني قبل أن ينتهي الغزو في 1985، ثم أجبرت المقاومة اللبنانية القوات الإسرائيلية على الفرار بليل.. من الشريط الجنوبي المحتل في مايو 2000.  

وتتراكم الدروس بعد عدوان إسرائيل على لبنان في 2006 – الذي قيلت في أثنائه نفس الدعاوى التي يرددها نتنياهو هذه الأيام عن شرق أوسط جديد، ولكن على لسان كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك – ناهيك عن أن كل المشاريع الشرق أوسطية؛ سواء ما يتعلق منها بالتعاون الاقتصادي بعد اتفاقية أوسلو 1993، أو بالتحالفات العسكرية الشرق أوسطية كما تجسدت في قمة الرياض الأمريكية-العربية-الإسلامية عام 2017 وما بعدها، لم يرَ أي منها النور، لكن جميعهم – كما هو واضح – عاجز عن فهم منطق التاريخ ودروسه.  

منطق التاريخ واضح إذن، لكن الأغبياء لا يفهمون. وقد يقول البعض بحق: لكن تكلفة المقاومة رهيبة، وليعلم هؤلاء أن المقاومة ليست خياراً يقرره الأكاديميون والخبراء.. لمن احتُلَّت أرضه وسُـلِبت حقوقه وامتُهنت كرامته، ولكنه قدَر بالنسبة للمظلومين، تحمل رايته نخبة منهم.. تُحْتَضُن من قِبَلِهِم وتناضل عنهم حتى استرداد الحقوق.  

ويتفاخر العدو الآن بأعمال «غير منتجة» – بلغة أهل القانون – فهم بالغو السعادة باغتيال حسن نصر الله والتخلص من السنوار. ولو أنهم راجعوا سياسات الاغتيال والقتل عبر التاريخ – وتحديداً في تاريخ القضية الفلسطينية ولبنان – لوجدوا أن قتلهم عز الدين القسام.. قد أثمر كتائب تحمل اسمه بعد نصف قرن. ولينتظروا كتائب السنوار.. التي ستكيل لهم من الضربات بعد مدة قد تقصر أو تطول، ما لن يُقارن بحماس اليوم. ولاكتشفوا أن اغتيال أحمد ياسين ومن بعده عبدالعزيز الرنتيسي، وصولًا إلى إسماعيل هنية، لم يهزم العملية التحررية التاريخية.  

صحيح أنها قد تتوقف حيناً.. لالتقاط الأنفاس، ولكن لتعود أقوى مما كانت، وليس علينا – للتأكد من صحة هذا المنطق – سوى أن نلقي نظرة على تطور المقاومة الفلسطينية.. منذ نجاح إسرائيل في احتلال غزة والضفة وحتى الآن. ومن يراجع تاريخ النضال التحرري، سيجد عديدًا من العثرات والتوقف.. بل والارتداد، لكن حال المقاومة هنا يكون كمن يصعد جبلاً وعراً، ويُضطر للهبوط لأسفل.. لا لكي يصل إلى السفح، وإنما ليجد طريقاً أسهل للصعود. ولا يعلم الاحتلال أنه يغذي – بجرائمه – جذوة النضال التحرري، وآخرها جريمة الإبادة الجماعية في غزة.. التي استُشهد السنوار في آخر حلقاتها، وهو يقاتل محتلي أرضه.  

وأثق أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعض بنان الندم.. على نشرها صور اللحظات الأخيرة في حياة السنوار؛ كقائد مقاوم كان يقاتل في الشارع.. كأي جندي من جنوده، حتى النفس الأخير.  

وستبقى العصا.. التي رفعها بيسراه في وجه الاحتلال وآلته العسكرية، رمزاً ملهماً لكل المناضلين من أجل الحرية. 

نقلاً عن «الأهرام» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.