نبيل عبدالفتاح
كشفت الحرب العداونية الإسرائيلية على قطاع غزة، عن اتساع الفجوات بين عالمنا العربي، وبين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية.. على عديد الصعد، وعلى رأسها عدم قدرة الجماعات البحثية والثقافية والسياسية.. على التأثير في اتجاهات نظرائهم في هذه المجتمعات لتمركزها حول ذواتهم وقضاياهم الوطنية، وفي الإقليم العرب. العلاقات بين بلداننا وبينهم، لا تزال تدور في الأطر الرسمية السياسية، والدبلوماسية، التي تخضع للسياسات الخارجية للأنظمة السياسية الحاكمة ـ آيا كانت طبيعتها، وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سواء لمن خرجوا منتصرين منها، أو تراجع بعض هذه الدول الكولونيالية عن مواقعها الدولية السابقة، مثل بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا والبرتغال، وإسبانيا، الذين شكلوا ظاهرة الاستعمار الغربي، في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية تاريخيًا.
فى أعقاب الحرب العالمية الثانية بدأت الظاهرة الاستعمارية في الانحسار.. تحت ثقل نتائج الحرب، ومعها دور حركات الاستقلال الوطني في الدول المستعمرة، ثم دور الاتحاد السوفيتي، والكتلة الاشتراكية، وتأثيرها على غالب قادة هذه الحركات التحريرية، ومن ثم دورها في نظام الثنائية القطبية، وفي سياقات الحرب الباردة، بين الكتلتين الاشتراكية والغربية، وهو ما أتاح بعض هوامش لحركة الدول المستقلة حديثا آنذاك، ومعها نشأة حركتي الحياد الإيجابى، وعدم الانحياز.
لعبت الهند، والصين، ويوجوسلافيا ومصر دورًا بارزًا في هاتين الحركتين، وأسهمت في دعم حركات التحرر والاستقلال الوطني في العالم الثالث آنذاك . تشكلت في هذه السياقات الدولية النظم الشمولية، والتسلطية، التى اعتمدت على التعبئة السياسية والاجتماعية، ورأسمالية الدولة الوطنية، والقطاع العام، وإستراتيجيات بوتقة الصهر، في بناء التكامل الوطنى في ظل هذه السياقات، وكان البحث السياسي، والاجتماعي يخضع لسيطرة السياسات البحثية، والعلمية للأنظمة الحاكمة، ومن ثم كانت هناك عمليات سيطرة على التفاعلات والمعرفة بالنظم والمجتمعات الغربية والجماعات الثقافية والسياسية والعلمية تؤدي لإيجاد بعض التأثيرات المتبادلة بين العقل العربي والعقل الغربي .
أدت أيديولوجيات الدول الآخذة في هذا النحو، إلى تهميش واسع النطاق للعقل البحثي، والعلمي داخل الجماعات العلمية، وأيضا الجماعات الصحفية، التي لعبت أدوارًا تبريرية لسياسات وقرارات الحكام في هذه البلدان. ترتب على ذلك سطحية غالب الخطاب الأيديولوجي، والبحثي، ونقص فادح في المعرفة داخل هذه المجتمعات.
لا شك أن ذلك أثر سلبا على تطور الجماعات البحثية والعلمية، وأيضا على الجماعات الصحفية، والمثقفين، نظرا للقيود المفروضة على حركة الترجمة ـ التى وضعت تحت الرقابات ـ، وأيضا على الإنتاج المنشور في عديد المجالات السياسية، والاقتصادية، والإبداعية في السرديات الروائية، والقصصية والمسرحية، والشعر..الخ، من ثم تزايد مضطرد في الفجوات مع تطور هذه البلدان، وعدم القدرة على ممارسة بعض التأثير في منظماتها المدنية والبحثية والثقافية بينما استطاعت الجماعات الإسرائيلية أن تتمكن من التأثير القوي والفعال داخلها على نحو ما ظهر أخيرا في حربها العدوانية الوحشية على قطاع غزة .
بعد الانفتاح الاقتصادي فى مصر – وبعض الدول العربية – تم الخروج من تجربة رأسمالية الدولة الوطنية، والطريق اللارأسمالى للقيمة، وتم التحالف مع الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، لم يستطع العقل السياسي الليبرالي العربي أن يتابع بعمق تطورات عمليات الانتقال الفكري والفلسفي والسياسي في النظم الرأسمالية.. وتحولاتها إلى الرأسمالية النيوليبرالية إلا في الاقتصاد، من خلال العقل الاقتصادي المالي، من بعض الخبراء الذين عملوا في صندوق النقد، والبنك الدوليين، من المنظمات الدولية وآخرين. حدث بعض التغير مع بعض مراكز البحث السياسي مثل مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام.. فى إحداث نقلة نقدية في البحث في النظم السياسية والاجتماعية، والعلاقات الدولية.
من الجدير بالإشارة إليه.. تراجع الوعي العربي عن معرفة الدولة والمجتمع الإسرائيلي، وتركيبته الاجتماعية، وجذورها العرقية، والأبنية الحزبية، وسياساتها، وذلك على الرغم من دور مركز الدراسات الفلسطينية، ومركز الأهرام . أدت اتفاقيات التسوية ـ كامب ديفيد ووادي عربة ـ إلى بعض من عدم الاهتمام بمتابعة ما يجري داخل النظم والسياسات الإسرائيلية بحثياً، وإعلاميا، وحدث بعض التمدد السائل والمبسط.. لثقافة التطبيع، والسلام، وتبناها بعضهم كمدخل للوجود في المراكز البحثية الغربية. الأهم أن الدراسات حول الولايات المتحدة، ومراكز القوة، والضغط داخلها، والتركيبة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ونمط الحياة الأمريكى ظلت ولا تزال جزءاً من الخطاب العام.. المندد ببعض سياساتها تجاه المنطقة، والعالم من بقايا الفكر اليساري العربي، بينما ظل العقل الليبرالي النقلي يعيش حول بعض بقايا الأفكار العامة البسيطة، والسائلة حول الديمقراطية الغربية، من منظورات شكلانية، ودستورية وقانونية، بعيداً عن حركية هذه النظم الدستورية والسياسية والاجتماعية، والثقافية! ولا صلة ولا تفاعل بين اقطابه ونظرائهم فى عالم الليبرالية الغربية!
من هنا، عندما نشبت حرب غزة في 7 أكتوبر 2023، انكشفت الفجوة بين غالب العقل العربي، وبين ما جرى. ولاتزال داخل الأحزاب السياسية الأمريكية والأوروبية، والهند، وبين المثقفين والباحثين والإعلاميين، في العالم العربي، وبين نظرائهم فى هذه البلدان، ولم يستطيعوا التواصل معهم – إلا قلة قليلة – بعد إصدار بيان بعض كبار المثقفين العرب (أدونيس وعبدالإله بلقزيز وآخرين)، وردود بعض المثقفين الفرنسيين.. على هذا البيان. لا شك أن الفجوة الاتصالية.. مرجعها غياب التفاعل بين الغالبية العظمى من الباحثين، والمثقفين، والإعلاميين، وبين نظرائهم في أمريكا الشمالية، وأوروبا، بل دول جنوب العالم.
الأخطر، أن ذلك مرجعه غياب الطلب السياسي والاجتماعي العربي.. على المعرفة والتواصل العلمي مع العالم، وأيضا اللا مبالاة الغربية ببعض الترجمات للأدب الروائى والشعر العربي في المجتمعات الغربية، ونسيانها وإهمالها.. لمحدودية هذه الترجمات الممولة من بعض المؤسسات الغربية، من هنا لم يستطع المثقفون والباحثون العرب أن يسهموا في التأثير المحدود جدا.. إزاء حالة من التأييد الكاسح للعدوان الإسرائيلى على المدنيين فى قطاع غزة. بينما استطاعت الخطابات المرئية للفيديوهات الطلقة.. حول مجازر العدوان على القطاع، أن تحدث تأثيرا متناميا، مع خطابات المنشورات، والتغريدات على منصة (X)، أن تستثير وتوقظ الضمائر الحرة الحية في المجتمعات الغربية، وتحفز على التظاهرات الكبرى المطالبة بوقف إطلاق النار، وتقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين من أهالي قطاع غزة.
إن الحرب العدوانية على قطاع غزة، والضفة الغربية لابد أن تفتح ملف الفجوات في المعرفة، والوعي النقدي السياسي، والثقافي، بما يجري في المجتمعات والنظم، والسياسات الغربية، وأيضا إزاء عالم الجنوب، وضرورة ردم هذه الفجوات.. من خلال مراكز البحث السياسي والاجتماعي، من منظورات نقدية، وعلمية، وذلك لبناء جسور من التفاعلات العلمية، والثقافية، مع نخب هذه المجتمعات المؤثرة في مسارات عالمنا المتغير.
نقلاً عن «الأهرام»