Times of Egypt

الحرب قبل السلام.. والعنف قبل العمران 

Mohamed Bosila
محمد عبدالشفيع عيسى 

محمد عبدالشفيع عيسى 

ألا ليتني أستطيع استكمال هذه السلسلة من المقالات في (الشروق) حول (مسارات اليقين واللايقين) في العلاقات الدولية الحاضرة والمستقبلية؛ وإذن لتمكنت من وضع بعض نقاط على بضعة حروف، فتكون لي وللقارئ الكريم سلكاً ناظماً للأحداث المبعثرة أو المتبعثرة؛ وتعيننا – من ثم – على فهم ما استغلق من أحداث جسام. 
وإن شئت ــ على سبيل المثال ــ تلخيصاً مختزلاً لمسير التطورات العاصفة خلال الفترة من 1950 حتى الآن، وعلى امتداد ما يقرب من خمسة وسبعين عاماً، لقلت إن (الحرب قبل السلام، والعنف قبل العمران). ولنضع نقطتين شارحتين بعد ما سبق لنكمل قائلين: (الرأسمال يتوحش ويفعل ما يشاء في عالم من الفوضى الشاملة)، فهذا ما يشي به اليقين الآن. 
وقد اخترنا عام 1950 بداية لأحداث ثلاثة أرباع القرن، لأنه في ديسمبر 1949 نجحت الثورة الصينية العظمى ــ بقيادة «ماو تسي تونج» ــ في اقتلاع رموز التوحش الاستعماري-الغربي والياباني معاً، طوال نصف قرن سبق، ثم العمل على إعلان بناء أصول عصر جديد، يقوم ــ كما قال صوت الأمنيات ــ على الازدهار والعمران، وعلى السلام و«الاستقرار الآمن». 

• • • 
فما الذي جرى يا تُرى.. مما نعلم أو قد لا نعلم؟ لقد أعقبت الحرب-الثورة الصينية، ما سُمِّي بالحرب الكورية من 1950 حتى 1953 تقريباً، وقامت دولتان تعكسان الصراع الناشئ بين (الغرب ــ والشرق): كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. الغرب كان الغرب «الرأسمالي» بقيادة الأمريكيين، والشرق هو الشرق (الاشتراكي) بقيادة السوفيتية البازغة. 
وظل جنوب شرق آسيا منذئذ، مسرحاً لصراع أيديولوجي عاصف بين (الرأسمالية) و(الاشتراكية)، صراع سياسي-عسكري مكشوف بين الصين ومعها روسيا ــ الاتحاد السوفيتي إن شئت ــ وبين أمريكا الصاعدة، ومعها فرنسا صاحبة الماضي الاستعماري الآسيوي الطويل. وقد أخذ ينحدر النجم الفرنسي نحو الهاوية مع أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات، لترث الولايات المتحدة فرنسا، سواء في «الهند الصينية»، وخاصة في فيتنام ولاوس وما حولهما، أو في الطوق الممتد حول شمال شرق آسيا (اليابان خاصة)، وذلك في القطاع المتقطع من الصين الأم باسم (تايوان) ــ جزيرة فورمورا إن شئت. ومع انزواء شمس فرنسا، وصعود أمريكا، حلت هذه محل فرنسا في التصدي لأهم بقعة مُشعّة لمسرح الحرب والعنف الجديد، أي فيتنام. 
وعلى وقع انتشار وهج الأيديولوجيا الاشتراكية الآسيوية بقيادة الصين (الشيوعية)، اشتعلت حُمّى التناقض المركب، عقائدياً وعسكرياً واقتصادياً، بين المعسكرين المتزاحمين. 
وتشاء الأحداث أن يذهب ماو تسي تونج بالصين بعيداً عن حليفه الأثير ــ الاتحاد السوفيتي – في عهد ما بعد زعامة ستالين الذي رحل عام 1953؛ لتصبح الصين «الغريم» الرئيسي للسوفيت، ويظهر شعار (النزاع الصيني-السوفيتي) منذ 1957 ولعقود طوال. 
وأما فيتنام فقد توزعت نارها (المقدسة) بين تلك الشمالية ــ الاشتراكية ــ حليفة الصين، وبين فيتنام الجنوبية التي غدت مسرحاً لتداخل أمريكي عسكري ــ في عصر ما بعد الاستعمار الفرنسي ــ آخذ في الاشتعال، ولا يلبث أن يهدأ حتى يعاود (الثوران)، لتقوم ما تسمى (حرب فيتنام: 1959-73). 
واستمرت (حرب فيتنام) تلك.. حتى انتهى الأمر بعد أجل طويل، بانتصار فيتنام الشمالية، ومعها (الصين الشيوعية)، ثم خضوع الأمريكيين لمنطق السلام المفروض بقوة السلاح، من خلال تسوية سلمية للصراع الممتد، عام 1973. 

• • • 
وفي نفس الوقت تقريباً، أخذ يُعاد تشكيل صورة مسرح (الحرب قبل السلام والاستقرار) و(العنف قبل العمران والازدهار) بقيادة رأس المال العالمي المتوحش، وبزعامة طرف بازغ ينقسم تحت رايتين: راية الشيوعية الصينية، وراية الاشتراكية السوفيتية، إن صح التعبير. 
وأخذت إعادة تشكيل المسرح صورة غريبة حقاً، وإن لم تكن ثمة غرابة على مسارح الأحداث الدولية، حيث نجح الثعلب (كيسنجر) وزير خارجية أمريكا، في صنع (سلام اقتصادي) من نوع معين، مع كل من الصين والاتحاد السوفيتي في وقت واحد.  

فأما مع الصين.. فقد استغل ظروف الصين (الفوضوية) بعد وفاة ماو تسي تونج و(صعود عصابة الأربعة) على سدّة القيادة الصينية، ليعتنق خليفة ماو (وهو «دينج هيسياو ينج») عقيدة براجماتية خالصة.. بعون أمريكي زاحف. وقد رفع شعار (لا يهمّ لون القطّة ما دامت تصطاد الفئران). وتمّ التخلي رسميا ًعن اعتناق العقيدة الماركسية اللينينية لتقوم «صين ما بعد ماو»، وحتى الآن على كل حال، على الخلط البراجماتي بين الدور القيادي للدولة والخطة، وبين ريادة القطاع الخاص المتخذ ثوب «الشركات عابرة الجنسيات»، ذات الأصول الأمريكية والأوروبية، وليعاد بناء الاقتصاد الصيني على قوام جديد كلياً، هو ما نراه الآن ربما.  

وأما السوفييت فقد (ابتلعوا الطّعْم) ــ إن صحت العبارة ــ وحل التسلح وصراعه المميت مع الأمريكيين محل الاقتصاد والتصنيع الثقيل. وما لبث سيل الأحداث أن امتد، حتى تغلَّب صراع التسلح على الاقتصاد والتنمية، ودبّ النزاع داخل المنظومة السوفيتية ذاتها، ثم إذا بهذه المنظومة ذاتها تتزعزع من جوفها، وينهار الاتحاد السوفيتي ومنظومة (الاشتراكية) العالمية، في أوروبا الشرقية خاصة، مع حلول 1990 و1991. 
حينئذ أخذ عنصر جديد يطل، عصر ما سُمي «القوة العظمى الوحيدة» Super powerThe Only.  

إنه العصر الأمريكي الجديد منذ 1990 حتى الآن تقريباً، عصر الحرب المكشوفة، و(اللاسلام الصريح)، حيث عالم العنف والانقسام، وشيوع «اللايقين» تحت رايات ملوّنة شتّى، والسعي من الجميع لقتال الجميع. وقد وصل بنا الأمر الآن ــ في لحظتنا الراهنة ــ لاشتعال ثلاث بؤر للصراع والحرب في وقت واحد: فلسطين وأوكرانيا وتايوان. 

نقلاً عن «الشروق» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.