نبيل عبدالفتاح
هل هناك علاقة بين الانفجار السكاني، وبين مدى فاعلية وكفاءة النظم القانونية في ضبط السلوك الاجتماعي في بعض البلدان العربية؟ السؤال عندما يُطرح في البلدان الغربية واليابان… إلخ، يبدو سؤالاً في غير موضعه، بالنظر إلى أن هذه البلدان يُطبَّق فيها القانون بفاعلية في الحياة اليومية في كافة مناحيها. ومرجع ذلك عديد الأسباب، ومنها التالية :
– رسوخ ثقافة القانون وتقاليدها، والامتثال لها من قبَل المواطن الفرد والمجتمع، لأنها جزء من الثقافة العامة، ونظم التنشئة الاجتماعية والسياسية، وتتكامل مع الثقافة السياسية الديمقراطية الليبرالية والتمثيلية، واحترام المواطن للمؤسسات السياسية والسلطات العامة.
– فلسفة القانون التي ترتكز عليها السياسات التشريعية، في طابعها الليبرالي، تعتمد على التوازن النسبي بين المصالح الاجتماعية المتصارعة في عديد القوانين، وتوازن بين الحريات العامة والشخصية، والقيود التي يفرضها المشرع على بعضها لاعتبارات الصالح العام، على الرغم من أن القوانين تحمل في أعطافها مصالح القوى الاجتماعية المسيطرة في كل دولة، لأن المشرع ينزع لاعتبارات الاستقرار السياسي ويميل إلى الموازنات في بعض القوانين لمصالح الطبقات الاجتماعية الوسطى والعمال والفلاحين، خاصة في مجال الضمانات الاجتماعية في الصحة، والتعليم، والمعاشات، وإعانات البطالة لمدد محددة وفق قانون كل دولة.
– ميلُ غالبية المواطنين إلى الأسرة النووية، والحد من الإنجاب، وضبط النسل، على الرغم من الضمانات الاجتماعية التي تقدمها الدولة للأسرة، أو علاقات الرفقة والمخادنة وغيرها من العلاقات خارج نظام الزواج، وتمنح للزوجة أو المسؤول عن تربية الأطفال وتعليمهم… إلخ.
– رسوخ قيمة العمل والكفاءة لدى المواطنين، في ظل المنافسة حول فرص العمل في سوق العمل في هذه المجتمعات، ومن ثم استصحاب قيمة احترام القانون والنظم التي تؤطره.
– احترام المال العام، وعدم المساس به لدى الأغلبية الساحقة من المواطنين، خاصة أن القانون الجنائي يحمي المال العام والوظيفة العامة – وأيضاً المال الخاص والملكية الخاصة – ويعاقب على أي سلوك ينتهك الملكية العامة، وجرائم الرشوة والاختلاس، وغيرها.
– التطورات الاقتصادية الكبرى، ومعها التكنولوجيا فائقة التطور، خاصة مع الثورتين الصناعية الثالثة والرابعة، وانعكاساتها على أسواق العمل في هذه البلدان، على نحو أدى إلى خروج بعض الوظائف من سوق العمل، على نحو يتطلب تطوير نظم البطالة، وإعادة التأهيل لشغل وظائف أخرى، من خلال برامج التدريب عليها، لإمكان إيجاد فرص جديدة ومختلفة للعمل، في ظل تغيرات السوق السريعة كنتاج للتطورات التكنولوجية الفائقة السرعة. من ثم يفرض ذلك ضغوطاً على المواطنين في هذه المجتمعات الأكثر تقدماً في عالمنا، لا سيما في ظل ثورة الرقمنة والذكاء الاصطناعي، وعالم الروبوتات، وهو ما يفرض تغيرات في مجال النظم القانونية لكي تتواءم مع عالم الانتقال إلى الإناسة الروبوتية، ثم إلى ما بعد الإنسانية مستقبلاً.
– أدت السياسات الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية إلى التأثير على أوضاع بعض الطبقات الوسطى، والعمال والفلاحين في بعض الدول، خاصة في فرنسا، على نحو أدى إلى حركة السترات الصفراء الاحتجاجية، وبروز بعض التوجهات للمطالبة بضرورة إدخال إصلاحات في النظام الليبرالي يتيح للمواطنين التصويت على بعض مشروعات القوانين مباشرة، دون الانتظار للانتخابات العامة، وذلك لمساسها بمصالحهم، ونمط حياتهم.
من هنا يبدو السؤال حول فاعلية القوانين والحريات العامة والشخصية، خارج نطاق المجتمعات والدول فائقة التطور، على الرغم من بعض أشكال الخروج على الأطر القانونية، والجرائم التي يرتكبها بعض المواطنين، خاصة في ظل موجات الهجرة من جنوب العالم، وشيوع التناقضات بين بعض المواطنين من الجاليات القادمة من جنوب العالم وأديانهم ومذاهبهم، وبين أنظمة القيم، والتقاليد والثقافات الغربية العلمانية، والفصل بين الدين وأنماط الحياة والسياسة في هذه البلدان، وأيضاً في اليابان وبعض البلدان الآسيوية الأخرى.
السؤال حول الانفجار السكاني، وعدم فاعلية القانون في بعض الدول العربية، يكتسب، وجاهته للأسباب التالية:
– ضعف ثقافة احترام القانون لدى المواطنين، وارتفاع معدلات الأمية القرائية والكتابية، وأمية المتعلمين، على نحو لا يجعلهم على اتصال بالثقافة القانونية، وأزمة العلم بالقانون حتى لدى بعض القانونيين.
– شيوع الاعتقاد بأن القانون لا يمثل مصالحهم الاجتماعية، وخاصة بعض الفئات المعسورة من العمال والفلاحين، والعمالة المؤقتة، والبورجوازية الصغيرة, لا سيما في ظل الضغوط الاجتماعية الواسعة على هذه الفئات والشرائح الاجتماعية، في ظل سياسات اقتصادية عربية تسعى إلى وضع موازنات عامة تتسم بالاختلال.
– ارتفاع معدلات التضخم المتزايدة، وأثرها على نمط حياة الطبقة الوسطى-الوسطى، والصغيرة، وغالبية الطبقات الشعبية، وهو ما يدفع بعضهم لانتهاك أحكام القانون، وارتكاب الجرائم والمخالفات، وتزايد أعداد الخارجين على القانون، وانتشار الجرائم على نحو فردي أو جماعي من العصب الإجرامية. وازدياد معدلات جرائم الرشوة، واختلاس المال العام، وغيرها.
– ارتفاع معدلات الإنجاب، على نحو انفجاري أدى ولا يزال إلى التضخم السكاني، على نحو يؤدي إلى نقص في فرص العمل، وانتشار البطالة، والهجرة من الأرياف والبوادي إلى المدن التي تريفت سعياً وراء الرزق، في ظل محدودية الحيز الجغرافي والمكاني للمدن العربية، مما أدى إلى تضخمها المتزايد. تضخم بعض مدن دول العسر العربية أدى إلى شيوع أنماط من سلوك الفوضى، وعدم احترام قواعد المرور وأنظمة البناء، وتوحش المدن المعسورة، من حيث أشكال الخروج على القانون، وتمدد حواف المدن وأحيائها من خلال نمط البناء العشوائي والمعمار اللارسمي، وتخلق بعض من العصب الإجرامية، وأنماط السلوك الإجرامي العنيف لدى بعض من سكانها.
– السلوك الاجتماعي الريفي في بعض المدن ينطوي على التقاليد والقواعد العرفية التي يخالف بعضها قانون الدولة، بما فيها قوانين الزراعة، وبعض قواعد القانون الجنائي في المشاجرات، وممارسة بعض العنف، أو الثأر، على الرغم من بعض التغيرات الاجتماعية، إلا أن هذا النمط من السلوك في المدن المريفة بات إحدى علامات ثقافة الفوضى واللا نظام في حيزها المكاني المحدود في ظل الانفجارات السكانية المتلاحقة في بعض المدن العربية ذوات الكثافات السكانية العالية، وأيضاً في الأرياف.
– ظاهرة المجتمع ضد الدولة – خاصة دول ما بعد الاستقلال الهشة عربياً ومجتمعاتها الانقسامية المتشظية – والانتماءات إلى هويات عرقية، وقبائلية، وعشائرية ودينية ومذهبية، ومناطقية، وهو ما أدى ولا يزال إلى أزمات هوياتية، وفي الانتماء الوطني، وهو ما يشيع لدى بعضهم في هذه الجماعات، وإدراك أن القوانين التي تسنها الدولة، وتصدرها وتنشرها هي تعبير عن مصالح تركيبة الحكم – ذات الأغلبية الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العشائرية أو العرقية… إلخ- ومن ثم تشيع لديهم دوافع الخروج على القانون والنظام لصالح بعض التقاليد، والقواعد العرفية السائدة في هذه الجماعات التكوينية، لا سيما الأقلية.
من هنا تشكل الانفجارات السكانية أحد محركات أنماط السلوك الجانح ومحمولاته من أنماط الفوضى في بعض «دول العسر« العربية.
نقلاً عن «الأهرام«