مصطفى كامل السيد..
هل يعيد التاريخ نفسه في إقليمنا، وفي العالم؟
هذه الممارسات.. من جانب إسرائيل وتركيا في الشرق الأوسط، وتصريحات قادة ورجال دين إسرائيليين.. عن حدودها؛ وفقاً للعهد القديم، فضلًا عن أن اعتراف ترامب.. بأنه لا يستبعد استخدام القوة لتحقيق سيطرة الولايات المتحدة على قناة بنما وجزيرة جرينلاند – وحتى كندا – توحي بأن استخدام القوة لكسب أراضٍ في دول أخرى.. لم يعد ذكريات من قرون مضت، لكنه سياسة تتبعها قوى إقليمية ودولية.. دونما خجل، ودونما اعتبار للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
وصف هذه الممارسات والأقوال.. بأنها استعمارية، ليس من اختراع كاتب هذا المقال، لكنه نفس التعبير الذي استخدمه سياسي مصري بارز، وهو الوصف الذي أطلقته صحفية في جريدة واشنطن بوست -واسعة الانتشار – في الإشارة إلى ما قاله الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب.. في مؤتمره الصحفي الأسبوع الماضي.
هل صحيح أن التاريخ يعيد نفسه؟ وما صورة هذه العودة؟ هل هى دراما متكررة أم أنها ملهاة ساخرة؟ هذا هو موضوع هذا المقال.
- • •
أليس من العجيب أن تأتي هذه الممارسات والتصريحات.. في القرن الحادي والعشرين، بعد أكثر من ستة عقود على إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها الشهير في 12 ديسمبر 1960، الذي دعا إلى إنهاء الاستعمار؛ بمنح الاستقلال لكل الشعوب والأقاليم.. التي كانت ما تزال تحت السيطرة الاستعمارية. وكذلك بعد قرابة ستة عقود.. على إقرار عهدين لحقوق الإنسان في 1966؛ تقر المادة الأولى في كل منهما بحق كل الشعوب في تقرير مصيرها، وبعد أن انتهى بالفعل الاحتلال العسكري لمعظم شعوب آسيا وأفريقيا.. الذي اكتمل في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد تحرر شعوب أمريكا اللاتينية قبل ذلك بقرن؟
فما التفسير لهذه العودة لتلك الممارسات، التي اقترنت بالاستعمار القديم؟ وهل لها نفس الأسباب؟ وهل ستولد نفس المقاومة؟
كانت هناك نظريات عديدة تفسر الاستعمار القديم، الذي اتخذ صورة تكوين إمبراطوريات.. تخضع معظمها للدول الأوروبية، وشاركتها اليابان لفترة قصيرة في شرق آسيا، والولايات المتحدة على نطاق محدود في أمريكا الوسطى والفلبين.
من هذه النظريات الشهيرة، ما أرجع الاستعمار في هذه الصورة إلى سعي الرأسمالية إلى حل مشاكلها.. في انخفاض معدل الربح على الاستثمار، وإشباع الاستهلاك في بلادها، وحاجتها – من ثم – إلى أسواق جديدة للاستثمار، أو للحصول على مواد أولية، أو لتصريف منتجاتها.
وأرجعت نظريات أخرى هذا المد الاستعماري.. إلى مصالح استراتيجية لهذه الدول المتنافسة فيما بينها.
لكن لا يبدو أن أياً من هذه النظريات، تفسر العودة إلى هذه الممارسات لدى هذه الدول في القرن الحادي والعشرين. فليست الحاجة للأسواق، أو المواد الخام، أو رفع معدل الربح لرأس المال.. هي التي تدعو الرئيس المنتخب دونالد ترامب، للتفكير في إعادة السيطرة على قناة بنما، أو ضم كندا للولايات المتحدة. … طبعًا جزيرة جرينلاند غنية بالمعادن الضرورية للصناعات المتقدمة، لكن يمكن للشركات الأمريكية الحصول على هذه المعادن – كما كانت تحصل عليها من دول أمريكا اللاتينية – بالاتفاق مع حكوماتها.
صحيح أن هناك سوابق لشراء حكومة الولايات المتحدة لأقاليم من دول أخرى؛ مثل لويزيانا.. التي اشتراها الرئيس توماس جيفرسون من فرنسا في 1803، وألاسكا.. التي اشتراها ويليام ستيوارد – عندما كان وزير الخارجية – من روسيا القيصرية في 1867، بل إن هذه الفكرة بدت معقولة.. لدى أحد كُتاب مجلة إيكونوميست وكتاب أمريكيين آخرين، لكن لا يبدو أن هذا الدافع الاقتصادي هو الأهم بالنسبة لدونالد ترامب، وربما يكون موقع جرينلاند – في منتصف الطريق لتجارة وحركة أساطيل كل من روسيا والصين نحو الولايات المتحدة – هو الدافع الأهم. ولكن كون جرينلاند هي إقليم مستقل.. تابع لدولة الدنمارك – عضو حلف الأطلنطي – لا يجعل من سيطرة الولايات المتحدة على جرينلاند هو السبيل الوحيد.. لضمان أمن الولايات المتحدة، فليس من المحتمل أن تعترض الدنمارك على تواجد القوات الأمريكية في جرينلاند.. إذا ما ثبت أن ذلك هو الأسلوب الوحيد لمواجهة خطر تواجهه الولايات المتحدة من الصين أو روسيا، وهو احتمال ضئيل على أي حال.
أما فيما يتعلق بكل من إسرائيل وتركيا، ومع وجود منافع اقتصادية لكل منهما.. في السيطرة على الضفة الغربية وغزة وجنوب لبنان بالنسبة لإسرائيل، وسوريا بالنسبة لتركيا، إلا أن الدوافع الأمنية تبدو هي الأهم في الوقت الحاضر.. من وجهة نظر قادة البلدين.
بحث إسرائيل عن «الأمن المطلق» – في الحاضر والمستقبل – هو الذي يدعوها للتمسك بالسيطرة على مساحات واسعة من أراضي الدول التي خرجت منها المقاومة لاحتلالها.. أو تضامناً مع من يقاومونه. بل على العكس من سلوك الدول الاستعمارية السابقة – التي كانت تهتم بالحفاظ على موارد الأقاليم التي استعمرتها حتى يمكن لها استغلالها على نحو نافع لها – تلجأ إسرائيل للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة، وينادي بعض قادتها باتباع نفس الأساليب في الضفة الغربية.. بتدمير البنية الأساسية وكل المرافق الاجتماعية، وكل المباني الأثرية والمساجد والكنائس؛ ما يرفع من تكلفة تعميرها – التي لا تقدر عليها إسرائيل – حتى تكون قابلة للاستغلال في المستقبل.
أما بالنسبة لتركيا، فإن الحيلولة دون قيام دولة كردية في شمال سوريا، تبدو هي الدافع الأهم لدى القادة الأتراك، فضلًا عن أحلام استعادة الإمبراطورية العثمانية.
- • •
هل ستمتد هذه الموجة الاستعمارية إلى أقاليم أخرى في العالم؟ وهل سينفذ دونالد ترامب ما صرّح به من امتداد السيطرة الأمريكية إلى هذه الأقاليم.. بعد توليه رئاسة الولايات المتحدة رسمياً، ولأربع سنوات مقبلة بعد 20 يناير 2025؟
يبدو أن الشرق الأوسط ينفرد – بين كل أقاليم العالم – بغياب توازن القوى بين دوله، فعلى عكس أقاليم الجنوب الأخرى.. في أفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية؛ حيث يؤدي عدم استقرار الدول الكبيرة فيها أو التوازن فيما بينها إلى غياب النزعة الاستعمارية. يصعب على الدول الأفريقية الكبيرة أن تخطط لابتلاع دول صغيرة مجاورة لها، بسبب تدهور اقتصاداتها أو معاناتها من صراعات داخلية تهدد استقرارها، وهذا حال دول مثل نيجيريا وإثيوبيا وجنوب أفريقيا، كما أن التوازن بين البرازيل والمكسيك مثلًا في أمريكا اللاتينية، أو الهند والصين في آسيا، هو الذي يقلل من الشهية في السعي لابتلاع دول مجاورة لها.
أما في الشرق الأوسط، فإن فجوة القوة العلمية والتكنولوجية والعسكرية.. بين الدول العربية وإسرائيل وتركيا وإيران، هي التي تشجع القوى غير العربية في الإقليم.. على التطلع إلى السيطرة على ما تمتد إليه قواها العسكرية، دونما أي رادع من داخل الإقليم.
أما في حالة الولايات المتحدة – وعلى الرغم من توازن القوة العسكرية بينها وبين كل من الصين وروسيا – فإن عزوف الصين عن الرغبة في الدخول في أي مواجهة مسلحة مع الولايات المتحدة.. في الوقت الحاضر، طالما هي بعيدة عن حدودها. وتحول روسيا – بعد إخفاقاتها في أوكرانيا وسوريا – إلى مجرد قوة إقليمية، هو الذى يسمح لدونالد ترامب بأن يطلق لخياله العنان.. في توسيع السيطرة العسكرية الأمريكية إلى أقاليم جديدة.
لكن من ناحية أخرى، فإن رفض القيادات المعنية في بنما وجرينلاند والدنمارك وكندا لتهديداته، وحرصه على تجنب دخول القوات الأمريكية في صراعات مسلحة، وكون الاحتلال العسكري لهذه البلاد التي قصدها.. ليس ضرورياً من الناحية الاستراتيجية للولايات المتحدة، فإن كتابات مفكرين أمريكيين من ذوي المصداقية، تستبعد أن يقرن هذه الأقوال بأفعال.. بعد دخوله البيت الأبيض.
- • •
حال الوضع العالمي في الوقت الحاضر، لا يوحي بأن هذه النزعة الاستعمارية الجديدة ستلقى المقاومة في المستقبل القريب. تجمع بريكس – الذي يقاوم نفوذ الولايات المتحدة على الصعيد الدولي – لا يأخذ هذه النزعة موضع الجد، وليست مقاومتها مطروحة على جدول أعماله، ويبدو أن الخشية من رئاسة ترامب – الذي يصعب التنبؤ بأفعاله – هي التي تجعل كل المنظمات الدولية – بما فيها الجمعية العامة للأمم المتحدة – في حالة ترقب لما قد يأتي. وعلى الرغم من أخطار هذه النزعة الاستعمارية في الشرق الأوسط.. على الدول العربية، إلا أن كل الحكومات العربية – خصوصاً الدول التي تتمتع باستقرار نسبي وقدر من عناصر القوة الوطنية – مشغولة بحسابات قُطرية، دون أن تدرك جيداً.. أن غياب التضامن الفعال فيما بينها، هو الذي يشجع هذه القوى الإقليمية غير العربية.. على أن تنال منها فرادى.
نقلاً عن «الشروق»