خالد عكاشة
أكثر من فكرة وعديد من المشروعات.. تتنازع فيما بينها، حول مستقبل قطاع غزة من خلال محاور مختلفة، تتلاقى جميعها بالضرورة حول الأرض والبشر وسلطة الحكم. ربما تبدأ من تصوُّر «حركة حماس» صاحبة سلطة ما قبل السابع من أكتوبر 2023، أنها قادرة على الالتفاف حول نتائج الحرب، واستعادة كل أو جزء من سلطة المستقبل.. استناداً إلى أنها أدارت العمل العسكري المقاوم داخل القطاع في مواجهة إسرائيل، طوال عامين كاملين، جلست خلالهما «منفردة» مرات عدة.. في المقعد المقابل للمقعد الإسرائيلي، بجلسات تفاوضية.. تطورت في بعض مراحلها، بأن كان الطرف المقابل أمريكياً صريحاً. هذا – من وجهة نظر «حماس» – يعطيها الحق في البحث عن موطئ قدم.. في مستقبل لم يتشكل بعد، وقادة الحركة من السياسيين يؤمنون بأن هذا الموطئ.. قابل لأن يضيق أو يتسع، بحسب مهاراتهم في استخدام أوراق المساومة «المتخيلة».. التي يملكونها، ناهيك عن أن يكون هذا عقلانياً وواقعياً من عدمه. لكن الثابت.. أن هذا ما تؤمن به حركة حماس وتتحرك بحسبه حتى اللحظة.
على الجانب الآخر هناك تصورات إسرائيلية.. لا تقل غرابة وتعقيداً، بل تفوقها بمراحل، في حجم ما صنعته من جرائم ودمار واسع.. كي تصل إلى ما يدور في رأسها من أفكار. تتمثل باختصار في رغبتها بتصحيح آثار عملية السابع من أكتوبر، من خلال استرداد أراضي قطاع غزة كاملة.. للسيطرة الإسرائيلية، شريطة أن يصحب ذلك تفريغها من البشر.. بأي وسيلة كانت؛ عبر التهجير أو القتل أو التشتيت والتطهير العرقي، أو جميع هذه السبل معاً حتى ولو تضمَّنت التبخر في الهواء.
بالتأكيد سيكون من الصعب فرز ما هو عقلاني من غيره.. في حزمة الأفكار الإسرائيلية، لأنها عملياً لم تكتفِ بكونها أفكاراً نظرية عدوانية، تبحث عن سبل التطبيق، بل قامت بتنفيذ الكثير منها مما يتجاوز العقل، ومنطق القبول الفطري الإنساني. الوزير بتسلئيل سموتريتش تحدث الاسبوع الماضي – أمام الخرائط التي يهوي الحديث أمامها عادة؛ في مؤتمر عقاري كبير بتل أبيب عن «الفرصة الاستثمارية» العقارية الواعدة.. التي تمثلها أراضي قطاع غزة، مؤكدا أن إسرائيل تجري نقاشات جادة مع الولايات المتحدة حول هذا الأمر.
الجناح الاستيطاني في الحكومة الإسرائيلية، لم يتباطأ للحظة.. في إعداد خرائط استثمار نتائج حرب الإبادة على غزة، فهم يرون – بحسب قياداتهم الممسكين فعلياً بالقرار الإسرائيلي – أنهم أنفقوا أموالاً طائلة لهذه الحرب.. التي استمرت لعامين، وبدخول فصلها الأخير محل التنفيذ.. من خلال عملية (عربات جدعون 2)، فالوقت حان من وجهة نظرهم لطرح أفكار تقاسم الأراضي، أو ابتلاعها كاملة.. أيهما أقرب وأقدر على التنفيذ.
الوزير سموتريتش في نفس المؤتمر، يتحدث بلسان وأفكار الدولة الإسرائيلية.. بعيدا عن توصيفات التطرف، وفرض العقوبات عليه من هنا أو هناك، وينقل للجمهور – ولمن يهمه الأمر – مراحل خطة عمل الدولة قائلا: «لقد أنجزنا بالفعل عملية الهدم.. وهي المرحلة الأولى، والآن علينا البدء في البناء». مشيراً إلى أن هناك خطة متكاملة أعدَّها – بحسب تعبيره – أكثر الأشخاص احترافية هنا، وهي الآن على مكتب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. الدعم الاستثنائي – الذي قدم من الإدارة الأمريكية – لأفكار على شاكلة «ريفييرا الشرق الأوسط» وغيرها، دفعت الجناح الاستيطاني المتنفذ في الدولة الإسرائيلية.. إلى ترجمة واستثمار هذا الدعم على أرض واقع القطاع المستقبلي.
ما بين التصورين – لحركة حماس من جهة وصولاً للأفكار الإسرائيلية – هناك عديد من الأفكار والمبادرات، جرى طرحها خلال أشهر الحرب؛ غالبيتها كان جزئياً، وتعلق بامكانية الوصول إلى ايقاف الحرب، وهذا هدف ملح ومطلوب بالتأكيد. لكن شمولية الرؤية – التي تتناول الأرض والبشر وسلطة الحكم – ربما لم تتمتع بها سوى «الخطة المصرية».. التي طُرحت أكثر من مرة، ومن ثم جرى الالتفاف عليها طوال الوقت؛ باعتبارها تبدأ أيضاً من نقطة ارتكاز محورية.. هي الوقف الفوري لاطلاق النار، من أجل تأمين البدء في مراحلها المتتابعة.
اكتسبت الخطة المصرية زخماً ودفعاً اضافياً، بعد طرحها على الكتلة العربية، لضمان استيفاء أركانها وصياغة رؤيتها التنفيذية والتمويلية بدقة، وهو ما جرى انجازه فعليا.. ومنذ تلك الخطوة باتت تسمى بـ«الخطة العربية»، وصارت مطروحة على الطاولة.
لكن الخطة المصرية تواجه تحدياً مركباً.. يتمثل بداية في الرفض الإسرائيلي غير المعلن، كونها تتمسك بحق الفلسطينيين في كامل أراضي قطاع غزة – بالأبعاد الجغرافية التي كانت عليه قبل السابع من أكتوبر 2023 – وتبني مراحلها الثلاث بحسب هذا المحدد. وأيضاً تواجه تحفظاً أمريكياً صارماً.. له علاقة مباشرة برغبة البيت الأبيض، في أن يكون اليوم التالي للحرب أمريكيا خالصاً.. من حيث الأفكار والإشراف.. وغيرها من آليات الانخراط المباشر، حتى وإن كانت الخطة المصرية تلبي – في كثير من جوانبها – ما يمكن تسميته بالمتطلبات الأمريكية.
لهذا، فالثابت أن واشنطن تتبنى منذ شهور، مقترحاً متكاملاً من وجهة النظر الأمريكية.. قدمه توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق؛ أنضجه بمعرفة «معهد توني بلير للتغيير العالمي»، وأشرك في لمساته الأخيرة جاريد كوشنر.. صهر الرئيس الأمريكي، الذي شغل منصب كبير مستشاريه في ولايته الأولى.
أمريكياً، جرى تقسيم العمل في ذات الملف.. بين ستيف ويتكوف – الموكل إليه شأن التفاوض والوصول إلى إيقاف الحرب – وكوشنر – المخول برسم ملامح اليوم التالي والذي استعان بمعهد بلير.. كي يبلور خطة أمريكية الصنع – وجرى العمل على هذه الخطة من بداية 2025، وقام توني بلير بلقاء كل الأطراف المعنية في المنطقة، بمن فيهم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.. لمناقشة الأدوار، ومدياتها المتوقعة في المستقبل، وعُرضت في صورتها النهائية – بمعرفة كوشنر وبلير – يوم 27 أغسطس.. باجتماع ضيق للغاية بالبيت الأبيض، ترأسه الرئيس ترامب، ولم يفصح بعده عن أي ملاحظات.. سوى تأكيد دعمه لهذا المسار، وتبنيه كـ «مقترح وحيد» بمعرفة الدولة!! خاص بمستقبل قطاع غزة.
الإيجابية الرئيسية في خطة بلير، أنها لا تتبنى إفراغ غزة من سكانها. بينما تذهب الخطط الإسرائيلية – كما هي تصورات «حماس» – إلى أن تدافع الأحداث سيخلق أمامهما فرصة من نوع ما، فهما يشتركان في حجم استثمار كبير.. جرى بذله، لا يتصور أي منهما أنه يمكنه العودة خالي الوفاض.
نقلاً عن «الأهرام»