سمير مرقص
(1) «الإمام الليث بن سعد»
في خطوة لافتة ومُقدَّرة، قرر الأستاذ أحمد المسلماني – رئيس الهيئة الوطنية للإعلام – إطلاق اسم الإمام المصري «الليث بن سعد».. على مسجد الهيئة الوطنية للإعلام، بالمبنى المصري العريق، الذي يُعد أحد رموز الاستقلال الوطني/التحديث المصري: مبنى الإذاعة والتليفزيون المصري أو «ماسبيرو». وبالفعل تم افتتاح المسجد بالاسم الجديد – بعد تجديده – بحضور وزير الأوقاف المصري الدكتور أسامة الأزهري.
وقد أسعدني هذا الخبر، الذي علمته من الأستاذ «المسلماني»، في حفل سحور رمضاني نظمه الصديق العزيز الأخ المهندس أحمد العصار قبل أيام. إذ إنني ممن كتبوا عن الإمام الفقيه مبكراً.. عندما كنت أقوم بدراسة تاريخية حول بناء الكنائس في مصر، عنوانها: «المواطنة الثقافية في مصر: بناء الكنائس نموذجاً» (2008)، رصدت فيها المسار التاريخي لبناء الكنائس في مصر.. قبل دخول الإسلام إليها – وبعده – حتى الدولة الحديثة. كما عرضت للجدل الفقهي والسياسي، والأحكام القضائية المتعلقة ببناء الكنائس في مصر.
وكنت أوردت – من ضمن ما أوردت – فتوى الرجل بالغة الأهمية والرقي، و«البراح الفقهي» – إن جاز التعبير – أو السقف الاجتهادي العالي.. حول بناء الكنائس، حيث أفتى بأن: «بناء الكنائس زينة للأرض». وقد دفعتني معرفتي بسيرة الرجل الثرية، أن أخصص فصلاً عنه في كتابي: «المواطنة والهوية: جدل النضال والإبداع في مصر»، إصدار دار العين 2024، الفصل 23 من القسم 7 المعنون: «المواطنة من منظوري المسيحية والإسلام في الخبرة المصرية» (من ص 533 إلى ص 540)، لما تميز به من رؤية شمولية وحس اجتماعي، وانحياز للمهمشين.. في ضوء معرفة موسوعية تتجاوز المعرفة الدينية.
(2) «من هو الإمام الليث بن سعد»
وُلد في قرية قلقشندة – من أعمال مركز طوخ بمحافظة القليوبية – من أسرة غنية (منتصف القرن التاسع الميلادي – سنة 92هـ). ويقول عنه الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوي.. في كتابه «أئمة الفقه التسعة»: «عرفت مصر دولاً وحكاماً، وابتُليت بالطغاة من خلفاء وولاة. ولقد شهد الليث – منذ طفولته – مظاهر الجور، وبطش الولاة، حتى استقر في نفس الصبي كُره التسلط والسلطة»، فانحاز للناس كل الناس.. «لا فرق في ذلك بين المسلمين وغير المسلمين»؛ أو بلغة أخرى: لكل المصريين ولمصر. فأنجز فقهاً مصرياً خالصاً ونقياً، كما شهد بذلك الإمام الشافعي – أحد الأئمة الأربعة الكبار – بعد أن جاء إلى مصر. ولأنه ابن البيئة المصرية: بيئة الخضرة والنماء والنيل.. أي التنوع والألوان المتعددة، الحاضرة في كل موضع على أرض مصر. كان لزاماً عليه أن يكون مستوعباً كل الثقافات والمعارف، التي وردت على مصر، وعرفتها؛ سواء ما استقر منها في التكوين الحضاري المصري، أو العابرة منها.
تعلم الإمام الليث بن سعد اللغة العربية، والمصرية القديمة/القبطية، واليونانية، واللاتينية.. التي من خلالها نُقل كل الإعجاز المصري القديم في: علوم الفلك، والطب، والرياضيات، والطبيعيات، والهندسة. كما نُقل تراث اليونان والرومان وغيرهما. ما أتاح له التعرف على ميراث علوم الأسلاف، واستيعاب معطيات الحضارة المطروحة على العقل المصري، ومنح تلاميذه غنى ثقافياً فريداً.
(3) «فقيه الخير العام»
القارئ لسيرة «الإمام الليث» من جهة، ولإنتاجه الفقهي من جهة أخرى، يدرك كيف وضع «الخير العام» للناس موضع الأولوية دوماً. فلقد تميز بأن لديه «حساً اجتماعياً»، ذا طابع «تقدمي».. فلقد كانت له مواقف نقدية واعية، تنم عن امتلاكه رؤية مجتمعية ناضجة للواقع المصري ولأحوال العباد؛ خاصة الفقراء منهم.. فلقد كان أشد ما يؤلمه من النافذين، أن يقبل أحدهم هدية، لأنه: إذا دخلت الهدية من الباب، خرجت العدالة من النافذة. وكان إمامنا يقسم وقته بين أربعة مجالس: الأول: للحاكم والقاضي، والثاني: لأهل الحديث، والثالث: للناس، وسماه مجلس المسائل.. ليجيب عن أسئلتهم، والرابع: لتلبية حاجات الناس (الفقراء) الحياتية/العملية.. من مأكل وملبس واحتياجات نوعية… إلخ. وهذا المجلس الأخير – أرجو الملاحظة عزيزي القارئ – كان يستهلك إيراده السنوي الكبير، أي أنه كان ينفق من ماله الخاص بغير حدود.
(4) «فقيه العدل الاجتماعي: حد الكفاية لا حد الكفاف»
كان للإمام الفقيه اجتهادات.. تحرص دوماً على إقامة العدل بين الأغنياء والفقراء، فيقول: «على صاحب الأرض أن يعمل فيها، أو يستغلها بالمزارعة، ويقسم الثمرات بينه وبين العاملين. فتكون له نسبة منها (لا تجحف) حق العاملين ولا تظلمهم». مثلما كان حريصاً على الدين، فاجتهد حتى بات يسعى إليه كل فقهاء عصره، كان حريصاً على مصر، وعلى طريقة حكمها، وهو ما جعل الخليفة العباسي المنصور يدعوه ويلاقيه.. وصرف كل ما أعطاه إياه المنصور من مال.. للمحتاجين فوراً.
وتبنى «الإمام الليث» مبدأ: «حد الكفاية» لا «حد الكفاف». إذ كان يفرق بينهما، كما يلي: أولاً: «حد الكفاف» هو ما يحفظ للناس حياتهم من الطعام والشراب. أما ثانياً: «حد الكفاية» فهو ما يكفي كل حاجات الناس من جودة الطعام والشراب، والمسكن الصالح المريح، والدواب التي تحملهم، والعلم الذي ينقذهم من الضلال، وسداد ديونهم، وكل ما يوفر الحياة المريحة الكريمة للإنسان. ومن ثم التزم إمامنا بالدفاع عن العدل الاجتماعي، والانحياز للناس- وبالأكثر الفقراء- فقهاً وسلوكاً.
(5) «فقيه مصر المواطنة»
إن اجتهاد الإمام الليث اجتهاد رحب، نتاج الخضرة والنيل.. يعبر عن إسلام الخبرة المصرية.. وقد عاش الإمام 82 عاماً، ملأ فيها الدنيا من حوله – بحسب الشرقاوي – «بالخير، والعلم، والمعرفة، وآداب السلوك، وأسباب المحبة».
تحية لإحياء ذكرى فقيه مصر المواطنة.. الإمام «الليث بن سعد».
نقلاً عن «المصري اليوم»