د. نيفين مسعد..
المحاولات الإسرائيلية لتوظيف التنوّع السكاني الكبير – الذي حبا به الله سبحانه وتعالى منطقتنا العربية – عمرها من عمر نشأة الكيان الإسرائيلي نفسه؛ ففكرة اللعب على الاختلافات القومية والدينية والطائفية، والنفخ فيها لتقطيع أوصال المنطقة.. تضرب عصفورين بحجر واحد؛ فهي تعزّز منطق تأسيس الكيان الإسرائيلي.. على أساس الدين، وتُضعف تماسك الأقطار العربية، وتهدد وحدتها الترابية.
وعندما يتصادف.. أن تكون مناطق تركّز بعض الجماعات، غنيّة بالثروات المعدنية والموارد الطبيعية، يكون ذلك هو العصفور الثالث.. الذي تراهن إسرائيل على اصطياده. هذه إذن مسألة معروفة، ومعترف بها من جانب المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم. وفيما يخص القومية الكردية – بالتحديد – فإن إسرائيل دأبت على تكرار.. أن الجبال ليست وحدها، هي صديقة الأكراد – كما يقولون في أدبياتهم.. اعترافاً بفضل الجبال في حمايتهم – فإسرائيل أيضاً صديقة وفيّة للأكراد، وهي تؤيد قيام كردستان الكبرى.. التي تجمع أكراد تركيا وإيران والعراق وسوريا في دولة واحدة.
وتحرص إسرائيل على المشابهة.. بين شجاعة كلٍّ من اليهود والأكراد، وتقاسمهم نفس القيم الديمقراطية من جهة، وبين ما تعتبره عداءً عربياً-إسلامياً ضد أولئك وهؤلاء.. من جهة أخرى. وبطبيعة الحال، تقع إسرائيل في تناقض منطقي.. أثناء سعيها لتوظيف القضية الكردية، تحقيقاً لمصالحها السياسية؛إذ بينما تجعل إسرائيل من الأكراد الوجه الآخر لليهود، فإنها تستنكر ازدواجية المعايير الدولية.. التي تسعى لإنصاف الفلسطينيين دون الأكراد. ومعنى ذلك ببساطة.. هو أن الفلسطينيين – وليس الأكراد – هم الذين يشبهون اليهود .
ومن قبل سقوط نظام بشّار الأسد – وبشكل أوضح بعده – يوجد قلق إسرائيلي متزايد.. بشأن مستقبل أكراد سوريا، وهو قلق.. انعكس في ذلك العدد الكبير من المقالات والتصريحات والدراسات العبرية، التي تناولت الموضوع. بل إن مما يثير الدهشة، أن وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر – في أول خطاب له بعد توليه منصبه الجديد في مطلع نوفمبر الماضي – تحدث بشكل مطوَّل.. عن الأكراد؛ كحلفاء استراتيجيين لإسرائيل. وهو – مع إقراره بالتقدم في مسار تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية – إلا أنه أكّد أهمية وجود الأقليات الأخرى.. في الفضاء الذي نعيش فيه؛ على حد تعبيره. وبطبيعة الحال، فإن التنوّع البشري موجود في الدول العربية، ليس لأن جدعون ساعر حريص على استمراره، بل لأنه جزء تكويني من الهيكل الاجتماعي لدولنا العربية، لكن كلام ساعر.. يؤشّر إلى أهمية محافظة إسرائيل على قنوات اتصال موازية – وغير رسمية – مع مكوّنات الدول العربية، بالإضافة إلى القنوات الرسمية مع الحكومات، وهذا هو نفس النهج الإيراني.. في اختراق المجتمعات العربية.
وفي إطار التناول الإسرائيلي لمستقبل أكراد سوريا، تم طرح العديد من الاقتراحات المطلوب تفعيلها؛ ومنها التقدم بطلب تمتُّع الأكراد بوضع مراقب غير عضو.. في الأمم المتحدة، على غرار وضع دولة فلسطين اعتباراً من عام 2012. ورفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية، لتوجيه اتهام ضد تركيا وإيران بالذات.. بممارسة جريمة الإبادة الجماعية بحق الأكراد (وهنا نلاحظ تكرار تشبيه الأكراد بالفلسطينيين.. لا اليهود كما سبق القول)، ومطالبة الكنيست بالموافقة على برنامج لتسليح أكراد سوريا، وتدريبهم، وتزويدهم بالمعلومات الاستخباراتية، والدعم الدبلوماسي.. على غرار ما تفعله الولايات المتحدة مع قوات سوريا الديمقراطية. والدعوة إلى تيسير حوار سياسي.. حول القضية الكردية في سوريا؛ تشترك فيه الولايات المتحدة مع تركيا والأكراد والسلطة الحاكمة في دمشق.
هذه الحزمة المختلفة من الاقتراحات، تتراوح – كما هو واضح – بين الترويج لخيار القوة الخشنة، وبين تحبيذ القوة الناعمة.. في التعامل مع مستقبل أكراد سوريا؛ وذلك أن المسألة الكردية بالغة التعقيد، لأن إسرائيل تخشى.. إن هي هدَّدت مصالح تركيا في شمال سوريا، أن ترد عليها تركيا.. بإثارة مشاكل لها في الجنوب؛ حيث الحدود المباشرة بين إسرائيل وسوريا. وفي الوقت نفسه، فإن إسرائيل غير مرتاحة بالمرة.. لتزايد النفوذ التركي في سوريا، وهي ترى من العبث.. أن يؤدي ضربها للجيش والقدرة العسكرية السورية، إلى إعادة بنائهما.. وفق العقيدة العثمانية الجديدة.
في مواجهة هذا التخطيط الإسرائيلي المتعدد البدائل.. لمستقبل أكراد سوريا،كيف استعد العرب؟ وبماذا استعدوا؟
لا يفيد هنا الرجوع للتاريخ، والقول إن سوء التعامل العراقي والسوري مع القضية الكردية.. هو الذي أوصل القضية الكردية إلى ما آلت إليه، أو أن ترك المسار السوري بالكامل.. لحوارات سوتشي وآستانة، خلق وضعاً أشبه ما يكون بوضع الدول المنتدبة.. في مناقشتها قضايا المناطق الخاضعة لانتدابها. لا يفيد هذا الرجوع للوراء، فهو يُعد جزءاً مما يعتبره رجال القانون.. حواراً غير منتج. لكن الذي يفيد، هو المشاركة في صياغة مستقبل أكراد سوريا. وهنا يمكن التفكير في مؤتمر عربي موسّع، تشارك فيه الأطراف الإقليمية والدولية.. بحكم الأمر الواقع. لكن – في الوقت نفسه – يكون للعرب حضورهم في هذا المؤتمر، في محاولة للتوصل لحل وسط.. بين الانفصال الذي تدفع إسرائيل في اتجاهه، وتصفية الإدارة الذاتية للأكراد في شمال شرق سوريا.. كما تريد تركيا.
هل توجد عوامل معرقلة؟
بالتأكيد توجد عراقيل، لكن – في الوقت نفسه – فإن تركيا راغبة في التوصل لتسوية مع أكرادها، لأن التمرد الكردي يرهقها اقتصادياً. والولايات المتحدة من الوارد جداً أن تنسحب من سوريا.. في ظل إدارة ترامب، وسيكون من المريح لها، أن ترتب الأوضاع – بشكل معقول – لقوات سوريا الديمقراطية.. قبل انسحابها. وهذه الأخيرة – أي قوات سوريا الديمقراطية نفسها – تدرك تماماً طبيعة المخاطر التي تتهددها حالياً، وتدعوها إلى خفض سقف توقعاتها.
كل تلك العوامل، تستحق شرف المحاولة العربية؛ لأن التفكّك إن بدأ بالأكراد، فلن ينتهي عند سوريا والعراق، فهناك شرق أوسط طائفي جديد.. يجري التخطيط له جهاراً نهاراً.
نقلاً عن «الأهرام»
إسرائيل وأكراد سوريا

شارك هذه المقالة
اترك تعليق